کفاية الاصول - قسمت هفتم

المقصد السادس :
في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً
وقبل الخوض في ذلك ، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعضٍ ما للقطع من الأحكام ، وأنّ كان خارجاً من مسائل الفن ، وكان أشبه بمسائل الكلام ، لشدة مناسبته مع المقام.
فاعلم : أن البالغ الذي وضع عليه القلم ، إذا التفت إلى حكم فعلّي واقعي أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإما أن يحصل له القطع به ، أو لا ، وعلى الثّاني ، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة وإلاّ فالرجوع إلى الأُصول العقلية : من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاصه أحكامه بما إذا كان متعلقاً بالأحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلقاً به ـ على ما ستطلع عليه ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة (1) شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثليث الاقسام.
وإن أبيت إلّا عن ذلك ، فالأولى أن يقال : إن المكلف امّا أن يحصل له
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 2.  

 
القطع أولاً ، وعلى الثّاني امّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ؛ لئلا تتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقررة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق ، على تفصيل يأتي في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما يقتضي دليلها.
وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه ، يستدعي رسم أمور :
الأمر الأوّل : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ، ولزوم الحركة على طبقه جزماً ، وكونه موجباً لتنجز التكليف الفعلّي فيما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذراً فيما أخطأ قصوراً ، وتأثيره في ذلك لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.
ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً.
وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً ، مع إنّه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقاداً مطلقاً ، وحقيقة في صورة الإصابة ، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعلياً ، وما لم يصر فعلّياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وأنّ كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة ؛ وذلك لأن الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ، ولا مخالفته عن عمد بعصيان ، بل كان مما سكت الله عنه ، كما في الخبر (1) ، فلاحظ وتدبر.
نعم ، في كونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين ، على ما يأتي (2) تفصيله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو
__________________
1 ـ الفقيه 4 / 53 ، باب نوادر الحدود ، الحديث 15.
2 ـ في بداية مبحث الأمارات ص 277. 
 
التحقيق في دفعه ، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري ، فانتظر.
الأمر الثاني : قد عرفت إنّه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة ، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته ، أو لا يوجب شيئاً؟  الحق إنّه يوجبه ؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجريه ، وهتكه لحرمة مولاه (1) وخروجه عن رسوم عبوديته ، وكونه بصدد الطغيان ، وعزمه على العصيان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قيامه (2) بما هو قضية عبوديته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته ، وأنّ قلنا بإنّه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سريرته أو حسنها ، وأنّ كان مستحقا للذّم (3) أو المدح بما يستتبعإنّه ، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.
وبالجملة : ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلّا مدحاً أو ذماً (4) ، وإنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة _ مضافاً إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجري على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك ، وحسنها معه ، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان ، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.
ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى [ به ] أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن
__________________
1 ـ في «أ» : وهتك حرمته لمولاه ، والصحيح ما أثبتناه.
2 ـ في «أ» و «ب» : إقامته ، والصحيح ما أثبتناه.
3 ـ في «أ» و «ب» : للّوم :
4 ـ اثبتناها من « ب ».
 
أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعاً ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة ، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته (1) أصلاً ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعاً ، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى ، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ، ولو اعتقد العبد بإنّه عدّوه ، وكذا قتل عدّوه ، مع القطع بإنّه إبنه ، لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً. هذا.
مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به _ بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب _ لا يكون اختيارياً ، فإن القاطع لا يقصده إلّا بما قطع إنّه عليه من عنوإنّه الواقعي الاستقلالي لا بعنوإنّه الطارىء الآلي ، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان مما يلتفت إليه ، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا إذا كانت اختيارية.
إن قلت : إذا لم يكن الفعل كذلك ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل كان العقاب عليها إلّا عقاباً على ما ليس بالاختيار؟
قلت : العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
إن قلت : إن القصد والعزم إنّما يكون من مبادىء الاختيار ، وهي ليست باختيارية ، وإلاّ لتسلسل.
قلت : ـ مضافاً إلى أن الاختيار وأنّ لم يكن بالاختيار ، إلّا أن بعضٍ مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار ، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه
__________________
1 ـ في هامش ( ب ) من نسخة أُخرى : بجهة.
 
من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة ـ يمكن أن يقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده عن سيّده بتجريّه عليه ، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة ، فكما إنّه يوجب البعد عنه ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، وأنّ لم يكن باختياره (1) إلّا إنّه بسوء سريرته وخبث باطنه ، بحسب نقصإنّه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكإنّه (2) ، وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإِشكال وينقطع السؤال ب‍ ( لِمَ ) فإن الذاتيات ضرورّية الثبوت للذات. وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن إنّه لم اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان؟ والمطيع والمؤمن الإطاعة والإِيمان؟ فإنّه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟ والانسان لم يكون ناطقاً؟
وبالجملة : تفاوت أفراد الإانسان في القرب منه تعالى (3) والبعد عنه ، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودركاتها ، [ وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدم نيلها ] ، وتفاوتها في ذلك بالاخرة يكون ذاتيا ، والذاتي لا يعلل.
إن قلت : على هذا ، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والانذار.
قلت : ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته ، لتكمل به نفسه ، ويخلص مع ربه أنسه ( مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) (5) ، قال الله تبارك وتعالى :
__________________
1 ـ كيف لا ، وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ، فإنّها هي المخالفة العمدية ، وهي لا تكون بالاختيار ، ضرورة أن العمد إليها ليس باختياري ، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية ، وهي غير موجبة للاستحقاق ، وإنما الموجبة له هي العمدية منها ، كما لا يخفى على أولى النهى منه (1 ).
2 ـ المطبوع في « ب » إمكاناً ، ولكن صححه المصنف ( قده ) بما في المتن.
3 ـ في « ب » : جل شإنّه وعظمت كبرياؤه.
4 ـ أثبتناها من « ب ».
5 ـ الأعراف : 43. 
 
( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (1) وليكون حجة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَة ٍ) (2) كي لا يكون للناس على الله حجة ، بل كان له حجة بالغة.
ولا يخفى أن في الآيات (3) والروايات (4) ، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإِطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه لا حاجة إلى ما استدل (5) على استحقاق المتجرئ للعقاب بما حاصله : إنّه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره ؛ مع بطلإنّه وفساده ، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه ، إنّما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه ، وهو مخالفته عن عمد واختيار ، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلاً ، ولو بلا اختيار ، بل عدم صدور فعل منه في بعضٍ افراده بالاختيار ، كما في التجري بارتكاب ما قطع إنّه من مصاديق الحرام ، كما إذا قطع مثلاً بأن مائعاً خمر ، مع إنّه لم يكن بالخمر ، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.
ثم لا يذهب عليك : إنّه ليس في المعصية الحقيقية إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتك واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهّم (6) ، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة ، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما ، كما لا يخفى ؛ ولا منشأ لتوهمه ، إلّا بداهة أنه ليس في
__________________
1 ـ الذاريات : 55.
2 ـ الانقال : 42.
3 ـ الاسراء : 36. والبقرة : 225 و 284. والاحزاب : 5.
4 ـ الكافي 2 / 69 باب النية من كتاب الإيمان والكفر. وللمزيد راجع وسائل الشيعة 1 / 35 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10.
5 ـ استدل به المحقق السبزواري ، ذخيرة المعاد / 209 ـ 210.
6 ـ راجع الفصول / 87 ، التنبيه الرابع من مقدّمة الواجب. 
 
معصية واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.
الأمر الثالث : إنّه قد عرفت (1) أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب ، يوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب ، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه ، لا يماثله ولا يضاده ، كما إذا ورد مثلاً في الخطاب إنّه ( إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدق بكذا ) تارةً بنحو يكون تمام الموضوع ، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً ولو أخطأ موجباً لذلك ، وأخرى بنحو يكون جزأه وقيده ، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجباً له ، وفي كلّ منهما يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به ؛ وذلك لأن القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ـ ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونورا لغيره ـ صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، بإلغاء جهة كشفه ، أو اعتبارٍ خصوصية أُخرى فيه معها ؛ كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاكٍ عنه ، فتكون أقسامه أربعة ، مضافاً إلى ما هو طريق محض عقلاً غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.
ثم لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة ـ بدليل حجيتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم ، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام ، بل لابد من دليل آخر على التنزيل ، فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار ، لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة إنّه كذلك يكون كسائر الموضوعاًت والصفات.
ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أُخذ في الموضوع على نحو
__________________
1 ـ في الأمر الأوّل صفحة 258.
 
الكشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً ، كسائر مالها (1) دخل في الموضوعاًت أيضاً ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرد حجيته ، وقيام (2) دليل على اعتباره ، ما لم يقم دليل على تنزيله ، ودخله في الموضوع كدخله.
وتوهمّ (3) كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً فيقوم مقامه طريقاً كان أو موضوعاً ، فاسد جدّاً. فإن الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال ، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين ، حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزَّل والمنزّل عليه ، ولحاظهما في أحدهما آليّ ، وفي الآخر استقلالي ، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.
نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما ، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين ، والمفروض إنّه ليس ؛ فلا يكون دليلاً على التنزيل إلّا بذاك اللحاظ الآليّ ، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطئه بناءً على استحقاق المتجري ، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي ، فيكون مثله في دخله في الموضوع ، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.
لا يقال : على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ، ما لم يكن هناك قرينة في البين.
فإنّه يقال : لا إشكال في كونه دليلاً على حجيته ، فإن ظهوره في إنّه بحسب اللحاظ الآليّ مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه ، فتأمل في المقام فإنّه دقيق ومزالّ الأقدام
__________________
1 ـ في حقائق الأصول : ماله ، الحقائق 2 : 24.
2 ـ في « ب » : أو قيام دليل ... الخ.
3 ـ تعريض بما ذكره الشيخ الانصاري ( قده ) فرائد الأصول / 4. 
 
للاعلام.
ولا يخفى إنّه لو لا ذلك ، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد ـ دالّ على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فيما (1) أُخذ في الموضوع على نحو الصفتية ؛ كان تمامه أو قيده وبه قوامه.
فتلخص ممّا ذكرنا : إن الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلّا مقام ما ليس بمأخوذ (2) في الموضوع أصلاً.
وأما الأصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها ـ أيضاً ـ غير الاستصحاب ؛ لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام ، من تنجز التكليف وغيره ـ كما مرت (3) إليه الإِشارة ـ وهي ليست إلّا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعاً أو عقلاً.
لا يقال : إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان.
فإنّه يقال : امّا الاحتياط العقلي ، فليس إلّا لأجل حكم العقل بتنجز التكليف ، وصحة العقوبة على مخالفته ، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم.
وأما النقلي ، فإلزام الشارع به ، وأنّ كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلّا إنّه لا نقول به في الشبهة البدوية ، ولا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الإِجمالي ، فافهم.
ثم لا يخفى أنَّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ
__________________
1 ـ الظاهر أنّه ردّ على الشيخ حيث فصّل بين القطع الموضوعي الطريقي وبين القطع الموضوعي الصفتي ، من جهة قيام الأمارة مقامه وعدم قيامها مقامه ، فرائد الأصول / 3.
2 ـ في « ب » : مأخوذاً.
3 ـ في ص 264 عند قوله : ( فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه ... ). 
 
في الموضوع مطلقاً ، وأنّ مثل ( لا تنقض اليقين ) لا بدّ من أن يكون مسوقاً امّا بلحاظ المتيقن ، أو بلحاظ نفس اليقين.
وما ذكرنا في الحاشية (1) ـ في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع ، وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع ، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما ، وتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبداً منزلة القطع بالواقع حقيقة ـ لا يخلو من تكلف بل تعسف. فإنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده ، بما هو كذلك بلحاظ أثره ، إلّا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان ، أو تنزيله في عرضه ، فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر ، فيما لم يكن محرزاً حقيقة ، وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة ـ كما في ما نحن فيه ، على ما عرفت (2) ـ لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً ، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له كذلك إلّا بعد دلالته على تنزيل المؤدى ، فإن الملازمة (3) إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي ، وتنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى ، فتأمل جيّداً ، فإنّه لا يخلو عن دقة.
ثم لا يذهب عليك أن (4) هذا لو تم لعم ، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.
الأمر الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا
__________________
1 ـ حاشية المصنف على الفرائد / 8 في كيفية تنزيل الأمارة مقام القطع.
2 ـ في عدم إمكان الجمع بين اللحاظين / 264.
3 ـ في بعضٍ النسخ المطبوعة زيادة هنا حذفها المصنف من نسختي « أ » و « ب ».
4 ـ في « أ » و « ب » : إنّه. 
 
الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولاضده للزوم اجتماع الضدين ، نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضده.
وأما الظن بالحكم ، فهو وأنّ كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون ، إلّا إنّه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، كان جعل حكم آخر في مورده ـ مثل الحكم المظنون أو ضدّه ـ بمكان من الامكان.
إن قلت : إن كان الحكم المتعلق به الظن فعلّياً أيضاً ، بأن يكون الظن متعلقاً بالحكم الفعلّي ، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلّي آخر مثله ضدّه ، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين ، وإنما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر ، كما في القطع ، طابق النعل بالنعل.
قلت : يمكن أن يكون الحكم فعلّياً ، بمعنى إنّه لو تعلق به القطع ـ على ما هو عليه من الحال ـ لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف ، برفع جهله لو أمكن ، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن ، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارةً ، وإلى ضدّه أُخرى ، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضدّه ، كما لا يخفى ، فافهم.
إن قلت : كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلّا إنّه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين أو الضدين؟.
قلت : لا بأس بإجتماع الحكم الواقعي الفعلّي بذاك المعنى ـ أيّ لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز ـ مع حكم آخر فعلّي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة ، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص ، على ما سيأتي (1) من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
__________________
1 ـ في بحث الأمارات / 278 ، عند قوله : لأن أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه ... إلخ. 
 
الأمر الخامس : هل تنجز التكليف بالقطع ـ كما يقتضي موافقته عملاً ـ يقتضي موافقته إلتزاماً ، والتسليم له اعتقاداً وانقياداً؟ كما هو اللازم في الأُصول الدينية والامور الاعتقادية ، بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما بحسب القلب والجنان ، والأخرى بحسب العمل بالاركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملاً ، أو لا يقتضي؟ فلا يستحق العقوبة عليه ، بل إنّما يستحقها على المخالفة العملية.
الحق هو الثّاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل الأمر سيده إلّا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم يكن متسلماً وملتزما به ومعتقداً ومنقاداً له ، وأنّ كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيده ، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً ، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك ، إنّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية ، لو كان المكلف متمكناً منها لوجب ، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملاً ، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضاً لامتناعهما ، كما إذا علم إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته ، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً ، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ، وأنّ لم يعلم إنّه الوجوب أو الحرمة.
وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوإنّه ، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة ، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً ، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلاً ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام ، لم يكد يقتضي إلّا الالتزام بنفسه عيناً ، لا الالتزام به أو بضده تخييراً.
ومن هنا قد انقدح إنّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول 
 
الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية ، مع قطع النظر عنه ، كما لا يدفع (1) بها محذور عدم الالتزام به (2). إلّا أن يقال : إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف ، ومعه لا محذور فيه ؛ بل ولا في الالتزام بحكم آخر.
إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان الأُصول في أطراف العلم الإِجمالي ، مع عدم ترتب أثر علمي عليها ، مع إنّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية ، مضافاً إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه ، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها ، كما ادعاه (3) شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، وأنّ كان محلّ تأمل ونظر ، فتدبرّ جيّداً.
الأمر السادس : لا تفاوت في نظر العقل أصلاً فيما يترتب على القطع من الآثار عقلاً ، بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف ، ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه ، كما هو الحال غالباً في القطّاع ، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بإنّه حصل كذلك ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ، ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.
نعم (4) ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً ، والمتبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كلّ مورد ، فربما يدلّ على اختصاصه بقسم في
__________________
1 ـ إشارة إلى ما في فرائد الأصول / 19 ، عند قوله : وأما المخالفة الغير العملية ... الخ.
2 ـ هنا زيادة في بعضٍ النسخ المطبوعة حذفها المصنف من نسختي « أ » و « ب ».
3 ـ فرائد الأصول / 429 ، عند قوله : بل لأن العلم الإِجمالي هنا بانتقاض ... الخ.
4 ـ قد نبه الشيخ في فرائد الأصول / 3 ، على هذا الاستدراك. 
 
مورد ، وعدم اختصاصه به في آخر ، على اختلاف الأدلة واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الأحكام والموضوعاًت ، وغيرها من الامارات.
وبالجملة القطع فيما كان موضوعاً عقلاً لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع ، ولا من حيث المورد ، ولا من حيث السبب ، لا عقلاً ـ وهو واضح ـ ولا شرعاً ، لما عرفت (1) من إنّه لا تناله يد الجعل نفياً ولا إثباتاً ؛ وأنّ نسب إلى بعضٍ الإخباريين إنّه لا اعتبارٍ بما إذا كان بمقدمات عقلية ، إلّا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بكذبها ، وإنّها إنّما تكون امّا في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي (2) عن السيد الصدر (3) في باب الملازمة ، فراجع.
وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية ، لأنّها لا تفيد إلّا الظن ، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي ; حيث قال ـ في جملة ما استدل به في فوائده (4) على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين ::
الرابع : أن كلّ مسلك غير ذلك المسلك ـ يعني التمسك بكلامهم ( عليهم الصلاة والسلام ) ـ إنّما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى ، وقد أثبتنا
__________________
1 ـ تقدم في الأمر الأوّل : 258.
2 ـ راجع ما حكاه الشيخ عن السيد الصدر : فرائد الأصول : 11 ، وكلام السيد الصدر في شرح الوافية.
3 ـ السيد صدر الدين بن محمد باقر الرضوي القمي ، أخذ من أفاضل علماء إصفهان ، كالمدقق الشيرواني والاقا جمال الدين الخونساري والشيخ جعفر القاضي ، ثم إرتحل إلى قُم ، فأخذ في التدريس إلى أن اشتعلت نائرة فتنة الافغان ، فانتقل منها إلى موطن أخيه الفاضل بهمدان ثم منها إلى النجف الاشرف ، فاشتغل فيها على المولى الشريف أبي الحسن العاملي والشيخ أحمد الجزائري ، تلمذ عليه الأستاذ الاكبر المحقق البهبهاني ، له كتاب « شرح الوافية » توفي في عشر الستين بعد المئة والألف وهو ابن خمس وستين سنة ( الكنى والألقاب 2 / 375 ).
4 ـ الفوائد المدنية : 129.
 
سابقاً إنّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها ) وقال في جملتها أيضاً ـ بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ـ ما هذا لفظه (1) :
« وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسكنا بكلامهم : فقد عصمنا من الخطأ ، وأنّ تمسكنا بغيره لم يعصم عنه ، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً ، إلّا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بإنّه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلك الأمر محلّ ، لإنّه قبيح ، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه إنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى » ، انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ في الرسالة (2).
وقال في فهرست فصولها (3) أيضاً :
( الأوّل : في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شإنّه ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله ، أو بحكم ورد عنهم : ) ، انتهى.
وأنت ترى أن محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه ، هو العقلي الغير المفيد للقطع ، وإنما همّه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.
وكيف كان ، فلزوم اتباع القطع مطلقاً ، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته ، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلاً ، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلاً عن
__________________
1 ـ المصدر السابق : 130 ، مع اختلاف يسير.
2 ـ فرائد الأصول / 9 مبحث القطع.
3 ـ الفوائد المدنية / 90 ، باختلاف غير قادح في العبارة.  

 
فاضل ، فلابد فيما يوهم (1) خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلّي (2) لأجل منع بعضٍ مقدماته الموجبة له ، ولو إجمالاً ، فتدبرّ جيّداً.
الأمر السابع : إنّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلّي علّة تامة لتنجزه ، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً ، فهل القطع الإِجمالي كذلك؟
فيه إشكال ، ربما يقال : إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً ، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً [ إلّا ] (3) محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة ، بل الشبهة البدوية (4) ، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلاً ، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً ، كما لا يخفى ، [ وقد أشرنا إليه سابقاً ، ويأتي (5) إن شاء الله مفصلاً ] (6).
نعم كان العلم الإِجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء ، لا في العلّية التامة (7) ، فيوجب تنجز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً ، كما كان في أطراف كثيرة غير
__________________
1 ـ المحاسن / 286 ، الحديث 430 ـ الكافي : 2 / 16 ، الحديث 5. الوسائل : 18 / الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 37.
2 ـ في هامش « ب » عن نسخة أُخرى : العقلي.
3 ـ أثبتناه من « ب ».
4 ـ كان هنا اشكال آخر ضرب عليه المصنف في نسختي « أ » و « ب ».
5 ـ تقدم في الأمر الرابع / 267 ، عند قوله : قلت : لا بأس باجتماع ... الخ ، ويأتي في أوائل البحث عن حجية الامارات.
6 ـ شطب المصنف على هذه العبارة في ( ب ).
7 ـ لكنه لا يخفى أن التفصي عن المناقضة ـ على ما يأتي ـ لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعي ما لم يصر فعلّياً والحكم الظاهري الفعلّي ، كان الحكم الواقعي في موارد الأصول والأمارات المؤدية
 
محصورة ، أو شرعاً كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها ، كما هو ظاهر ( كلّ شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعينه ) (1).
وبالجملة : قضية صحة المؤاخذة على مخالفته ، مع القطع به بين أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها ، أو مع الإذن في الاقتحام فيها ، هو كون القطع الإِجمالي مقتضياً للتنجز لا علّة تامة.
وأما احتمال (2) إنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية ، وبنحو العلّية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية ، فضعيف جداً. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة ، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجباً لجواز الاذن في الاقتحام ، بل لو صحّ الإذن في المخالفة الاحتمالية صحّ في القطعية أيضاً ، فافهم.
ولا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك ، كما أن المناسب في باب البراءة والاشتغال ـ بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلّية ـ هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته ، كما لا مجال بعد
__________________
إلى خلافه لا محالة غير فعلّي ، فحينئذ فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلّي الإذن في مخالفته ، بل يستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزوم موافقته وإطاعته.
نعم لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليته شرعاً أو عقلاً ، كما إذا كان مخلّاً بالنظام ، فلا تنجز حينئذ ، لكنه لأجل عروض الخلل في المعلوم لا لقصور العلم عن ذلك ، كان الأمر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام ، فإنّه أيضاً موجب للخلل في المعلوم ، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً ، وقد انقدح بذلك إنّه لا مانع عن تأثيره شرعاً أيضاً ، فتأمل جيداً ( منه 1 ).
1 ـ باختلاف يسير في العبارة : الكافي 5 / 313 باب النوادر من كتاب المعيشة ، الحديث 39. التهذيب 7 / 226 ، الباب 21 من الزيادات ، الحديث 8 ، الفقيه 3 / 216 ، الباب 96 الصيد والذبايح الحديث 92.
2 ـ هذه إشارة إلى التفصيل في حجية العلم الإِجمالي كما يستفاد من كلمات الشيخ الانصاري في مبحث العلم الإِجمالي / 21 ، عند قوله : ( وأمّا المخالفة العملية فإن كانت ... ) ، ومبحث الإِشتغال / 242 ، عند قوله : ( نعم لو أذن الشارع ... ).  

 
البناء على إنّه بنحو العلّية للبحث عنه هناك أصلاً ، كما لا يخفى.
هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به ، وأما سقوطه به بأن يوافقه إجمالاً ، فلا إشكال فيه في التوصليات. وأما [ في ] (1) العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار ، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقلّ والأكثر ، لعدم الإِخلال بشيء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها ، مما لا يمكن أن يؤخذ فيها ، فإنّه نشأ من قبل الأمر بها ، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز فيما إذا أتى بالاكثر ، ولا يكون إخلال حينئذ إلّا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها ، واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.
وأما فيما احتاج إلى التكرار ، فربما يشكل (2) من جهة الإِخلال بالوجه تارةً ، وبالتمييز أُخرى ، وكونه لعباً وعبثاً ثالثة.
وأنت خبير بعدم الإِخلال بالوجه بوجه في الإِتيان مثلاً بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه ، غاية الأمر إنّه لا تعيين له ولا تمييز فالاخلال إنّما يكون به ، واحتمال اعتباره أيضاً في غاية الضعف ، لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار ، مع إنّه مما يغفل عنه غالباً ، وفي مثله لا بدّ من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض ، وإلاّ لأخل بالغرض ، كما نبهنا عليه سابقاً (3).
وأما كون التكرار لعباً وعبثاً ، فمع إنّه ربما يكون لداع عقلاًئي ، إنّما يضر إذا كان لعباً بأمر المولى ، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها ، كما لا يخفى ، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلاً بالامتثال.
وأما إذا لم يتمكن إلّا من الظن به كذلك ، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره ، إلّا فيما إذا لم يتمكن منه ، وأما لو قام على اعتباره
__________________
1 ـ من هامش ( ب ) عن نسخة أُخرى.
2 ـ راجع كلام الشيخ قدس فرائد الأصول / 299 ، في الخاتمة في شرائط الأُصول.
3 ـ في مبحث التعبدي والتوصلي ، 76. 
 
مطلقاً ، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني ، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإِجمالي في قبال الظني ، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد ، بناءً على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط ، وأما لو كان من مقدماته بطلإنّه لاستلزامه العسر المخل بالنظام ، أو لأنّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة ، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار ، كما توهّم ، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلاً إلى الظن كذلك.
وعليه : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد ، وأنّ احتاط فيها ، كما لا يخفى.
هذا بعضٍ الكلام في القطع مما يناسب المقام ، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال.
فيقع المقام فيما هو المهمّ من عقد هذا المقصد ، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات ، أو صحّ أن يقال ، وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور :
أحدها : إنّه لا ريب في أن الامارة الغير العلمية ، ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّية ، بل مطلقاً ، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجيّة عقلاً ، بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة ، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف ، ولا سقوطاً وأنّ كان ربما يظهر فيه من بعضٍ المحققين (1) الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل.
ثانيها : في بيان إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية شرعاً ، وعدم لزوم
__________________
1 ـ لعلّه المحقق الخوانساري (ره) كما قد يستظهر من بعضٍ كلماته في مسألة ما لو تعدَّد الوضوء ولم يعلم محلّ المتروك ( الخلل ) ، راجع مشارق الشموس / 147.  

 
محال منه عقلاً ، في قبال دعوى استحالته للزومه ، وليس (1) الإِمكان بهذا المعنى ، بل مطلقاً أصلاً متّبعاً (2) عند العقلاء ، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإِمكان عند الشك فيه ، ومنع حجيتها ـ لو سلّم ثبوتها ـ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها ، والظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها وامتناعه ، فما ظنك به؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه ، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تالٍ باطل فيمتنع مطلقاً ، أو على الحكيم تعالى ، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإِمكان ، وبدونه لا فائدة في إثباته ، كما هو واضح.
وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ من كون الإِمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلاً ، والإِمكان في كلام الشيخ الرئيس (4) : ( كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإِمكان ، ما لم يذدك عنه واضح البرهان ) ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلّا الوجدان ، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.
وكيف كان ، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال ، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أُمور :
أحدها : إجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلاً فيما أصاب ، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ ، أو التصويب وأنّ لا يكون هناك غير مؤديات الأمارات أحكام.
__________________
1 ـ هذا تعريض بالشيخ (ره) حيث اعترض على المشهور بما لفظه : ( وفي هذا التقرير نظر ... ) ، فرائد الأصول / 24 ، في إمكان التعبد بالظن.
2 ـ في « أ » : بأصل متبع.
3 ـ فرائد الأصول / 24 ، في إمكان التعبّد بالظن.
4 ـ راجع الإشارات والتنبيهات : 3 / 418 ، النمط العاشر في أسرار الآيات ، نصيحة. 
 
ثانيها : طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.
ثالثها : تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وكونه محكوماً بسائر الأًحكام.
والجواب : إن ما ادعي لزومه ، امّا غير لازم ، أو غير باطل ، وذلك لأن التعبد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإِنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ، بل إنّما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ ، ولكون مخالفته وموافقته تجرياً وانقياداً مع عدم إصابته ، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة ، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدين ، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الكراهة والإرادة ، كما لا يخفى.
وأما تفويت مصلحة الواقع ، أو الإلقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلاً ، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.
نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للأحكام التكليفية ، أو بإنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام ، فاجتماع حكمين وأنّ كان يلزم ، إلّا إنّهما ليسا بمثلين أو ضدين ، لأن احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإِنشائه الموجب للتنجز ، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما ، حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ، وأنّ لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى ، إلّا إنّه إذا أوحى بالحكم الناشىء (1) من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي ، أو ألهم به الوليّ ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما (2) ، الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً ، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل إنّما كانت في نفس
__________________
1 ـ في « ب » : الشاني.
2 ـ أثبتناها من « أ ».  

 
إنشاء الأمر به طريقياً. والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، موجبة لإِرادته أو كراهته ، الموجبة لإِنشائه بعثاً أو زجراً في بعضٍ المبادئ العالية ، وأنّ لم يكن في المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ كما أشرنا ـ فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة ، وإنما لزم إنشاءً حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا ، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلّا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي ، فافهم.
نعم يشكل الأمر في بعضٍ الأُصول العملية ، كأصالة الإِباحة الشرعية ، فإن الإذن في الاقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً ، كما فيما صادف الحرام ، وأنّ كان الاذن فيه لأجل مصلحة فيه ، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه ؛ فلا محيص في مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعضٍ المبادئ العالية أيضاً ، كما في المبدأ الأعلى ، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلّي ، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه ، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها ، وكونه فعلّياً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبويّة أو الولويّة ، فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.
فانقدح بما ذكرنا إنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلّياً ، كي يشكل تارةً بعدم لزوم الإِتيان حينئذ بما قامت الأمارة على وجوبه ، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الإِتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
لا يقال : لا مجال لهذا الإِشكال ، لو قيل بإنّها كانت قبل أداءً الأمارة إليها إنشائية ، لإنّها بذلك تصير فعلية ، تبلغ تلك المرتبة.
فإنّه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبداً ، إلّا حكم إنشائي تعبداً ، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة ؛ امّا 
 
حقيقة فواضح ، وأما تعبداً فلأنّ قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤدّاها (1) هو الواقع تعبداً ، لا الواقع الذي أدّت إليه الامارة ، فافهم.
أللهم إلّا أن يقال : إن الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ـ الذي صار مؤدّى لها ـ هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء ، لكنه لا يكاد يتم إلّا إذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً ، وإلاّ لم تكن لتلك الدلالة مجال ، كما لا يخفى.
وأخرى بإنّه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثيّة أو زجرية في موارد الطرق و الأُصول العملية المتكلفة لأَحكام فعلية ، ضرورة إنّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين ، كذلك لا يمكن احتماله.
فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين ، بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون مورد الطرق ـ إنشائياً غير فعلّي ، كما لا يصحّ بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ؛ وذلك لا يكاد يجدي ، فإن الظاهري وأنّ لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلّا إنّه يكون في مرتبته أيضاً.
وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة ؛ فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق ، فإنّه دقيق وبالتأمل حقيق.
ثالثها : إن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز التعبد به واقعاً ، عدم حجيته جزماً ، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعاً ، فإنّها لا تكاد تترتب إلّا على ما اتصف بالحجية فعلاً ، ولا يكاد يكون الاتصاف بها ، إلّا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقاً متّبعاً ، ضرورة إنّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته ، ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها ، ولا يكون
__________________
1 ـ في « أ » : مؤداه.
 
 
مخالفته تجرياً ، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقياداً ، وأنّ كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه ، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
وأما صحة الالتزام (1) بما أدى إليه من الأحكام ، وصحة نسبته إليه تعالى ، فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلاً ـ على تقرير الحكومة في حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئاً ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها ، ومعه لما كان يضر عدم صحتهما أصلاً ، كما أشرنا إليه آنفاً.
فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد ، وعدم جواز إسناده (2) إليه تعالى غير مرتبط بالمقام ، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم ، كما أتعب به شيخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ نفسه الزكية ، بما أطنب من النقض والإبرام ، فراجعه بما علقناه (4) عليه ، وتأمل. 
وقد انقدح ـ بما ذكرنا ـ أن الصواب فيما هو المهمّ في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل ، فتدبرّ جيداً.
إذا عرفت ذلك ، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.
__________________
1 ـ هذا تعرض بالشيخ ، فرائد الأصول / 30 في المقام الثاني.
2 ـ في « ب » : الاستناد.
3 ـ راجع فرائد الأصول / 30.
4 ـ حاشية فرائد الأصول / 44 ، عند قوله : ولا يخفى أن التعبد ... الخ. 
 
فصل
لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة ؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طريقة أُخرى في مقام الإِفادة لمرامه من كلامه ، كما هو واضح.
والظاهر (1) أن سيرتهم على اتباعها ، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلاً ، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعاً ، ضرورة إنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف.
كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه ؛ ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى ، من تكليف يعمه أو يخصه ، ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، كما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من كلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلاً عما إذا لم يكن بصدد إفهامه.
ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والأئمة الطاهرين ، وأنّ ذهب بعضٍ الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب.
__________________
1 ـ إشارة إلى التفصيلين أشار إليهما الشيخ في رسائله. فرائد الأصول / 44.  

 
إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما (1) ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة (2) عن الفتوى به.
أو بدعوى (3) إنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية ، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله ، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلّا الأوحدي من الأفاضل ، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شئ.
أو بدعوى (4) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.
أو بدعوى إنّه وأنّ لم يكن منه ذاتاً ، إلّا إنّه صار منه عرضاً ، للعلم الإِجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره ، كما هو الظاهر.
أو بدعوى شمول الإخبار الناهية (5) عن تفسير القرآن بالرأي ، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.
ولا يخفى أن النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب الوجوه ، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً ، وأما بحسبهما فالظاهر إنّه كبروي ، ويكون
__________________
1 ـ وسائل الشيعة 18 : 29 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 527 ، الكافي 8 : 311 ، الحديث 485.
2 ـ هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسي البصري ، مفسر حافط ضرير أكمه ، قال أحمد بن حنبل : قتادة أحفظ أهل البصرة ، كان مع علمه بالحديث رأساً في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب ، وكان يرى القدر وقد يدلّس في الحديث ، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه‍ ، وهو ابن ست وخمسين سنة. ( تذكرة الحفاظ 1 : 122 الرقم 107 ).
3 ـ حكي عن الإخباريين ، راجع فرائد الأصول / 34.
4 ـ حكاه الشيخ 1 عن السيد الصدر ، فرائد الأصول / 38 ، شرح الوافية.
5 ـ تفسير العياشي : 1 / 17 ـ 18 ، عيون أخبار الرضا : 1 / 59 ، الباب 11 ، الحديث 4 ، أمالي الصدوق : 155 / الحديث 3 ، التوحيد : 905 ، الحديث 5.
 
المنع عن الظاهر ، امّا لإنّه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً ، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.
وكل هذه الدعاوي فاسدة :
أما الأُولى ، فإنما المراد مما دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته ؛ بداهة أن فيه ما لا يختص به ، كما لا يخفى. وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه ، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به ، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات (1) الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته (2).
وأما الثانية ، فلأن احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها ، كما هو محلّ الكلام.
وأما الثالثة ، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل ، وليس بمتشابه ومجمل.
وأما الرابعة ، فلان العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنّما يوجب الإِجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإِجمال.
مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به ، غير بعيدة ، فتأمل جيداً.
__________________
1 ـ مثل رواية الثقلين ، راجع الخصال : 1 / 65 ، الحديث 98 ، معاني الإخبار / 90 ، التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء ، الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.
2 ـ في « ب » : الآيات.
 
وأما الخامسة ، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير ، فإنّه كشف القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلّم ، فليس من التفسير بالرأي ، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبارٍ به ، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحإنّه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار ، من دون السؤال عن الأوصياء ، وفي بعضٍ الإخبار (1) ( إنّما هلك الناس في المتشابه ، لإنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم ). هذا مع إنّه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة إنّه قضية التوفيق بينها وبين مادل على جواز التمسك بالقرآن ، مثل خبر الثقلين (2) ، وما دلّ على التمسك به ، والعمل بما فيه (3) ، وعرض الإخبار المتعارضة عليه (4) ، ورد الشروط المخالفة له (5) ، وغير ذلك (6) ، مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات أو الشروط ، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها ، ليست إلّا ظاهرة في معانيها ، ليس فيها ما كان نصاً ، كما لا يخفى.
ودعوى العلم الإِجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو : امّا بإسقاط ، أو
__________________
1 ـ وسائل الشيعة 18 / 148 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 62.
2 ـ الخصال : 1 / 65 الحديث 98 ، ومعاني الأخبار / 90 ، الحديث 1.
3 ـ نهج البلاغة : باب الخطب ، الخطبة 176.
4 ـ الوسائل 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12 ، 15 ، 29.
5 ـ الوسائل 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث : 1.
6 ـ التهذيب : 1 / 363 ، الحديث 27 من باب صفة الوضوء. الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1. الوسائل : 1 / 327 الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحديث : 
 
تصحيف (1) ، وأنّ كانت غير بعيدة ، كما يشهد به بعضٍ الأخبار (2) ويساعده الاعتبار ، إلّا إنّه لا يمنع عن حجية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع خلل (3) فيها بذلك أصلاً. ولو سلّم ، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها ، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات ، والعلم الإِجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة ، وإلاّ لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى ، فافهم.
نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به ، لأخل بحجيته ؛ لعدم انعقاد ظهور له حينئذ ، وأنّ انعقد له الظهور لولا اتصاله.
ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل ( يطهرن ) بالتشديد والتخفيف ، يوجب الإِخلال بجواز التمسك والاستدلال ، لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم يثبت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وأنّ نسب (4) إلى المشهور تواترها ، لكنه مما لا أصل له ، وإنما الثابث جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بينهما ، كما لا يخفى.
ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى ، بناءً على اعتبارها من باب الطريقية ، والتخيير بينها بناءً على السببية ، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات ، فلابد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم ، حسب اختلاف المقامات.
__________________
1 ـ في « ب » : بتصحيف.
2 ـ الاتقان : 1 / 101 ، 121. مسند أحمد : 1 / 47. صحيح مسلم : 4 / 167.
3 ـ في « ب » : الخلل.
4 ـ نسبة الشيخ ( قده ) راجع فرائد الأصول / 40.  

 
فصل
قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام : فإن أُحرز بالقطع وأنّ المفهوم منه جزماً ـ بحسب متفاهم أهل العرف ـ هو ذا فلا كلام.
وإلّا فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها ، لكن الظاهر إنّه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداء ، لا إنّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها ، كما لا يخفى ، فافهم.
وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو ، وأنّ لم يكن بخال عن الإِشكال ـ بناءً على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد ـ إلّا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل ، وأنّ كان لأجل الشك فيما هو الموضوع له لغةً أو المفهوم منه عرفاً ، فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه ، فإنّه ظن في إنّه ظاهر ، ولا دليل إلّا على حجية الظواهر.
نعم نسب (1) إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع ، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك ، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ، ولو مع المخاصمة واللجاج ، وعن بعضٍ (2) دعوى الإجماع على ذلك.
وفيه : أن الاتفاق ـ لو سلّم اتفاقه ـ فغير مفيد ، مع أن المتيقّن منه هو الرجوع إليه مع إجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.
والإجماع المحصل غير حاصل ، والمنقول منه غير مقبول ، خصوصاً في مثل
__________________
1 ـ نسبه الشيخ ( قده ) راجع فرائد الأصول / 45 ، في القسم الثّاني من الظنون المستعملة لتشخيص الاوضاع.
2 ـ كالسيد المرتضى على ما نسب إليه ، الذريعة 1 / 13.  

 
المسألة مما احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكلّ ، هو اعتقاد إنّه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة فيما اختصّ بها.
والمتيقن من ذلك إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق (1) والاطمئنان ، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع ، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك ، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال ، بداهة أن همّه ضبط موارده ، لا تعيين أن أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً ، وإلاّ لوضعوا لذلك علامة ، وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه ، للانتقاض بالمشترك.
وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى ، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً ، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه ، وأنّ كان المعنى معلوماً في الجملة لا يوجب اعتبارٍ قوله ، ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام ، كما لا يخفى ، ومع الانسداد كان قوله معتبراً إذا أفاد الظن ، من باب حجية مطلق الظن ، وأنّ فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.
نعم لو كان هناك دليل على اعتباره ، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له على نحو الحكمة لا العلة.
لا يقال : على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.
فإنّه يقال : مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها ، فإنّه ربما يوجب القطع بالمعنى ، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى ـ بعد الظفر به وبغيره في اللغة ـ وأنّ لم يقطع بإنّه حقيقة فيه أو مجاز ، كما اتفق كثيراً ، وهو يكفي في الفتوى.
__________________
1 ـ في « ب » : موجباً للوثوق.  

 
فصل
الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص ، من جهة إنّه من أفراده ، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص ، فلابد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له ، بعمومها أو إطلاقها.
وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور :
الأول : إن وجه اعتبارٍ الاجماع ، هو القطع برأي الامام 7 ، ومستند القطع به لحاكيه ـ على ما يظهر من كلماتهم ـ هو علمه بدخوله 7 في المجمعين شخصاً ، ولم يعرف عيناً ، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه 7 عقلاً من باب اللطف ، أو عادةً أو اتفاقاً من جهة حدس رأيه ، وأنّ لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادةً ، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع ، حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابه 7 في المجمعين عادةً ، يحكون الإجماع كثيراً ، كما إنّه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بإنّه معلوم النسب ، إنّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله 7 وممن اعتذر عنه بانقراض عصره ، إنّه استند إلى قاعدة اللطف. هذا مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك ، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.  

 
وربما يتفق لبعض الأوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته 7 وأخذه الفتوى من جنابه ، وإنما لم ينقل عنه ، بل يحكي الاجماع لبعض دواعي الاخفاء.
الأمر الثاني : إنّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع ، فتارة ينقل رأيه 7 في ضمن نقله حدساً كما هو الغالب ، أو حساً وهو نادر جداً ، وأخرى لا ينقل إلّا ما هو السبب عند ناقله ، عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً ، واختلاف ألفاظ النقل أيضاً صراحة وظهورا وإجمالاً في ذلك ، أيّ في إنّه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.
الأمر الثالث : إنّه لا إشكال في حجية الاجماع المنقول بأدلة حجية الخبر ، إذا كان نقله متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حس ، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً ، وكذا إذا لم يكن متضمناً له ، بل كان ممحضاً لنقل السبب عن حس ، إلّا إنّه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادةً أو اتفاقاً ، فيعامل حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره.
وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال ، أظهره عدم نهوض تلك الادلة على حجيته ، إذ المتيقن من بناءً العقلاء غير ذلك ، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك (1) ، على تقدير دلالتهما ، خصوصاً فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة ، هذا فيما انكشف الحال.
وأما فيما اشتبه ، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار ، فإنّ عمدة أدلة حجية الإخبار هو بناءً العقلاء ، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم إنّه عن حس ، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس ، حيث إنّه ليس بناؤهم إذا أُخبروا بشيء على التوقف والتفتيش ، عن إنّه عن حدس أو حس ، بل العمل على (2) طبقه والجري على
__________________
1 ـ في « ب » : قدم « على تقدير دلالتهما » على « ذلك ».
2 ـ في « أ » : على العمل طبقه. 
 
وفقه بدون ذلك ، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك ، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس ، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة هذا.
لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلاً ، فلا اعتبارٍ لها ما لم ينكشف أن نقل السبب (1) كان مستنداً إلى الحس ، فلابدّ في الاجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها ، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل ، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كإنّه المحصل ، فإن كان بمقدار تمام السبب ، وإلاّ فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به (2) تم ، فافهم.
فتلخص بما ذكرنا : أن الإجماع المنقول بخبر الواحد ، من جهة حكايته رأي الامام 7 بالتضمن أو الالتزام ، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه 7 وما نقله من الأقوال ، بنحو الجملة والإِجمال ، وتعمّه أدلة اعتباره ، وينقسم بأقسامه ، ويشاركه في أحكامه ، وإلاّ لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.
وأما من جهة نقل السبب ، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإِجمال بألفاظ نقل الاجماع ، مثل ما إذا نقلت على التفصيل ، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له (3) ـ من أقوال السائرين أو سائر الأمارات ـ مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام ، كان المجموع كالمحصل ، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولاً ، ولا تفاوت في اعتبارٍ الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه ، أو ما له دخل فيه وبه قوامه ، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل ، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها ، وغير ذلك مما له دخل في تعيين
__________________
1 ـ في « ب » : المسبّب.
2 ـ في « ب » : بإنّه.
3 ـ في « أ » : إليه ، وصححه المصنف. 
 
مرامه 7 من كلامه.
وينبغي التنبيه على أمور :
الأول : إنّه قد مرّ أن مبنى دعوى الاجماع غالباً ، هو اعتقاد الملازمة عقلاً ، لقاعدة اللطف ، وهي باطلة ، أو اتفاقاً بحدس رأيه 7 من فتوى جماعة ، وهي غالباً غير مسلمة ، وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة ، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادةً من الفتاوى ، فقليل جداً في الاجماعات المتداولة في السنة الأصحاب ، كما لا يخفى ، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله 7 على نحو الإِجمال في الجماعة في زمان الغيبة ، وأنّ احتمل تشرف بعضٍ الاوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً ، فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلّا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه ، بما اكتنف به من حال أو مقال ، ويعامل معه معاملة المحصل.
الثاني : إنّه لا يخفى أن الاجماعات المنقولة ، إذا تعرض إثنان منها أو أكثر ، فلا يكون التعرض إلّا بحسب المسبب ، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين ، لاحتمال صدق الكلّ ، لكن نقل الفتاوى على الإِجمال بلفظ الاجماع حينئذ ، لا يصلح لأن يكون سبباً ، ولا جزء سبب ، لثبوت الخلاف فيها ، إلّا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه 7 لو اطلع عليها ، ولو مع اطّلاعه على الخلاف ، وهو وأنّ لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلاً ببعيد ، إلّا إنّه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلّا مجملاً بعيد ، فافهم.
الثالث : إنّه ينقدح مما ذكرنا في نقل الاجماع حال نقل التواتر ، وإنّه من حيث المسبب لا بدّ في اعبتاره من كون الإخبار به إخباراً على الإِجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به ، ومن حيث السبب يثبت به كلّ مقدار كان اخباره بالتواتر د إلّا عليه ، كما إذا أخبر به على التفصيل ، فربما لا يكون إلّا دون حد  
 
التواتر ، فلا بدّ في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار ، يبلغ المجموع ذاك الحد.
نعم ، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة ـ ولو عند المخبر ـ لوجب ترتيبه عليه ، ولو لم يدلّ على ما بحد التواتر من المقدار.
فصل
مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى ، ولا يساعده دليل.
وتوهمّ (1) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى ، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده الخبر ، فيه مالا يخفى ، ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن ، غايته تنقيح ذلك بالظن ، وهو لا يوجب إلّا الظن بإنّها أولى بالاعتبار ، ولا اعتبارٍ به ، مع أن دعوى القطع بإنّه ليس بمناط غير مجازفة.
وأضعف منه ، توهّم دلالة المشهورة (2) والمقبولة (3) عليه ، لوضوح أن المراد بالموصول في قوله في الأُولى : ( خذ بما اشتهر بين أصحابك ) وفي الثانية : ( ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكماً به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ) هو الرواية ، لا ما يعم الفتوى ، كما هو أوضح من أن يخفى.
نعم بناءً على حجية الخبر ببناء العقلاء ، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته ، بل على حجية (4) كلّ أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان ، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.
__________________
1 ـ راجع تعليقة المصنف على كتاب فرائد الأصول / 57.
2 ـ عوالي اللآلي 4 / 133 ، الحديث 229.
3 ـ التهذيب 6 / 301 ، الحديث 52 ، والفقيه 3 / 5 ، الحديث : 2 ، باختلاف يسير في الرواية.
4 ـ في « ب » : حجيته. 
 
فصل
المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد في الجملة بالخصوص.
ولا يخفى أن هذه المسألة من أهم المسائل الأُصولية ، وقد عرفت في أول الكتاب (1) أن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة ، وأنّ اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأُصول هي الادلة ، وعليه لا يكاد يفيد في ذلك ـ أيّ كون هذه المسألة أصولية ـ تجشم دعوى (2) أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل ، ضرورة أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الادلة ، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها ، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى (3) أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنّة ـ وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد ، أو لا تثبت إلّا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الأخبار بها ليس من عوارضها ، بل من عوارض مشكوكها ، كما لا يخفى ، مع إنّه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر ، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في إنّها من المباحث أو من غيره ، لا ما هو لازمه ، كما هو واضح.
__________________
1 ـ راجع ص 9.
2 ـ انظر دعوى صاحب الفصول ، الفصول / 12.
3 ـ راجع فرائد الأصول / 67 ، في الخبر الواحد.