آموزش اصول فقه ویژه دانشجویان حقوق
دانلود الموجز آيت الله سبحاني – قسمت اول
الأمر الأوّل: تعريف علم الأُصول
و موضوعه و غايته
إنّ لفظة أُصول الفقه تشتمل علي کلمتين تدلاّن علي أنّ هنا أُصولاً وقواعد يتّکل الفقه عليها، فلابدّ من تعريف الفقه أوّلاً، ثمّ تعريف أُصوله ثانياً.
الفقه - علي ما هو المعروف في تعريفه - : هو العلم بالأحکام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية.
فخرج بقيد «الشرعية» العقلية، و بـ «الفرعية» الاعتقادية و المسائل الأُصولية و بـ «التفصيلية» علم المقلِّد بالأحکام، فإنّه و إن کان عالماً بالأحکام، لکنّه لا عن دليل تفصيلي، بل بتبع دليل إجمالي و هو حجّية رأي المجتهد في حقّه في عامة الأحکام، و أمّا المجتهد فهو عالم بکلّ حکم عن دليله الخاص.
الأُصول و إليک بيان أُمور ثلاثة فيه:
تعريفه: هو علم يبحث فيه عن القواعد التي يتوصّل بها إلي استنباط الأحکام الشرعية عن الأدلّة.
و علي ذلک فعلم أُصول الفقه من مبادئ الفقه، و يتکفّل بيان کيفيّة إقامة الدليل علي الحکم الشرعي.
موضوعه: کلّ شيء يصلح لأن يکون حجّة في الفقه و من شأنه أن يقع في طريق الاستنباط.
فإنّه ليس کلّ قاعدة علمية تصلح لأن تکون حجّة في الفقه فليس لمسائل العلوم الطبيعية و لا الرياضية، هذه الصلاحية، و إنّما هي لعديد من المسائل ،
کظواهر الکتاب و خبر الواحد، و الشهرة الفتوائية، إلي غير ذلک.
غايته: القدرة علي استنباط الأحکام الشرعية عن أدلّتها و العثور علي أُمور يحتج بها في الفقه علي الأحکام الشرعية.
و مما ذکرنا يعلم وجه الحاجة إلي أُصول الفقه، فإنّ الحاجة إليه کالحاجة إلي علم المنطق، فکما أنّ المنطق يرسم النهج الصحيح في کيفية إقامة البرهان، فهکذا الحال في علم الأُصول؛ فإنّه يُبيّن إقامة الدليل علي الحکم الشرعي.
الأمر الثاني: تقسيم مباحثه
تنقسم المباحث الأُصولية إلي أربعة أنواع:
الأوّل: المباحث اللفظية و يقع البحث فيها عن مداليل الألفاظ و ظواهرها التي تقع في طريق الاستنباط نظير ظهور صيغة الأمر في الوجوب.
الثاني: المباحث العقلية و يقع البحث فيها عن الأحکام العقلية الکلية التي تقع في طريق الاستنباط نظير البحث عن وجود الملازمة بين وجوب الشيء و وجوب مقدمته.
الثالث: مباحث الحجج و الأمارات کالبحث عن حجّية خبر الواحد.
الرابع: مباحث الأُصول العملية، و هي تبحث عن مرجع المجتهد عند فقد الدليل علي الحکم الشرعي.
و يمکن تقسيمها بملاک آخر و هو تقسيمها إلي مباحث لفظيّة، و عقليّة و هذا هو الرائج بين المتأخّرين ورتّبنا کتابنا علي ترتيب مباحث الکفاية.
الأمر الثالث: الوضع
إنّ دلالة الألفاظ علي معانيها دلالة لفظية وضعية و الوضع قد عُرِّف بوجوه
أوضحها:
جعل اللفظ في مقابل المعني و تعيينه للدلالة عليه.
و ربما يُعرَّف: انّه نحو اختصاص للّفظ بالمعني و ارتباط خاص بينهما ناشئ من تخصيصه به تارة، و يسمّي بالوضع التعييني، و کثرة استعماله فيه أُخري و يسمّي بالوضع التعيّني.
و الفرق بين التعريفين واضح، فإنّ الأوّل لا يشمل إلاّ التعييني بخلاف الثاني فانّه أعمّ منه و من التعيّني.
أقسام الوضع
ثمّ إنّ للوضع في مقام التصوّر أقساماً أربعة:
1 . الوضع الخاص و الموضوع له الخاص.
2. الوضع العام و الموضوع له العام.
3. الوضع العام و الموضوع له الخاص.
4. الوضع الخاص و الموضوع له العام.
ثمّ إنّ الميزان في کون الوضع خاصّاً أو عامّاً هو کون المعني الملحوظ حين الوضع جزئياً أو کلّياً.
فإن کان الملحوظ خاصّاً ووضع اللفظ بازائه، فهو من القسم الأوّل، کوضع الأعلام الشخصية.
و إن کان الملحوظ عامّاً و وضع اللفظ بازائه، فهو من القسم الثاني، کأسماء الأجناس.
و إن کان الملحوظ عامّاً و لم يوضع اللفظ بازائه بل وضع لمصاديق ذلک
العام، فهو من القسم الثالث، کالأدوات و الحروف علي ما هو المشهور، فالواضع علي هذا القول تصوَّر مفهومي الابتداء و الانتهاء الکليّين ثمّ وضع لفظة «من» و «إلي» لمصاديقهما الجزئية التي يعبّر عنها بالمعاني الحرفية.
و إن کان الملحوظ خاصّاً، و وضع اللفظ للجامع بين هذا الخاص و الفرد الآخر، فهو من القسم الرابع.
المعروف إمکان الأوّلين و وقوعهما في عالم الوضع، و إمکان الثالث، و إنّما البحث في وقوعه. و قد عرفت أنّ الوضع في الحروف من هذا القبيل.
إنّما الکلام في إمکان الرابع فضلاً عن وقوعه، فالمشهور استحالة الرابع فيقع الکلام فيما هو الفرق بين الثالث حيث قيل بإمکانه، و الرابع حيث قيل بامتناعه.
وجهه: انّ الملحوظ العام في القسم الثالث له قابلية الحکاية عن مصاديقه و جزئياته، فللواضع أن يتصوّر مفهوم الابتداء والانتهاء و يضع اللّفظ لمصاديقهما التي تحکي عنها مفاهيمهما.
و هذا بخلاف الرابع فإنّ الملحوظ لأجل تشخّصه بخصوصيات يکون خاصّاً، ليست له قابلية الحکاية عن الجامع بين الأفراد، حتي يوضع اللّفظ بازائه.
و بالجملة العام يصلح لأن يکون مرآة لمصاديقه الواقعة تحته، و لکن الخاص لأجل تضيّقه و تقيّده لا يصلح أن يکون مرآة للجامع بينه و بين فرد آخر.
تقسيم الوضع بحسب اللفظ الموضوع
ثمّ إنّ ما مرّ کان تقسيماً للوضع حسب المعني، و ثمة تقسيم آخر له حسب اللفظ الموضوع إلي شخصي و نوعي.
فإذا کان اللفظ الموضوع متصوّراً بشخصه، فيکون الوضع شخصيّاً کتصوّر ذذ
لفظ زيد بشخصه؛ و أمّا إذا کان متصوّراً بوجهه و عنوانه، فيکون الوضع نوعيّاً، کهيئة الفعل الماضي التي هي موضوعة لانتساب الفعل إلي الفاعل في الزمان الماضي، و لکن الموضوع ليس الهيئةَ الشخصية في ضرب أو نصر مثلاً، بل مطلق هيئة «فعل»، في أيّ مادة من المواد تحقّقت.
و بذلک يعلم أنّ وضع الهيئة في الفاعل و المفعول و المفعال هو نوعي لا شخصي.
الأمر الرابع: تقسيم الدلالة إلي تصوّرية و تصديقيّة
تنقسم دلالة اللّفظ إلي تصوّرية و تصديقيّة.
فالدلالة التصوّرية: هي عبارة عن انتقال الذهن إلي معني اللّفظ بمجرّد سماعه و إن لم يقصده اللاّفظ، کما إذا سمعه من الساهي أو النائم.
و أمّا الدلالة التصديقيّة: فهي دلالة اللّفظ علي أنّ المعني مراد للمتکلّم و مقصود له.
فالدلالة الأُولي تحصل بالعلم باللغة، و أمّا الثانية فتتوقف علي أُمور:
أ. أن يکون المتکلم عالماً باللغة.
ب. أن يکون في مقام البيان و الإفادة.
ج. أن يکون جادّاً لا هازلاً.
د. أن لا ينصب قرينة علي خلاف المعني الحقيقي.
الأمر الخامس: الحقيقة و المجاز
الاستعمال الحقيقي: هو إطلاق اللّفظ و إرادة ما وضع له، کإطلاق الأسد و إرادة الحيوان المفترس.
و أمّا المجاز: فهو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له، مع وجود علقة بين الموضوع له و المستعمل فيه بأحد العلائق المسوِّغة، کإطلاق الأسد و إرادة الرجل الشجاع.
ثمّ إذا کانت العلقة هي المشابهة بين المعنيين فيطلق عليه الاستعارة، و إلاّ فيطلق عليه المجاز المرسل کإطلاق الجزء و إرادة الکلّ کإطلاق العين و الرقبة و إرادة الإنسان.
هذا هو التعريف المشهور للمجاز، و هناک نظر آخر موافق للتحقيق، و حاصله:
إنّ اللّفظ - سواء کان استعماله حقيقيّاً أو مجازيّاً - يستعمل فيما وضع له، غير أنّ اللّفظ في الأوّل مستعمل في الموضوع له من دون أي ادّعاء و مناسبة، و في الثاني مستعمل في الموضوع له لغاية ادّعاء انّ المورد من مصاديق الموضوع له، کما في قول الشاعر: لَدي أسدٍ شاکي السلاحِ مُقَذَّفٍ لــه لِبَــد أظفــارهُ لــم تُقَــلَّم
فاستعمل لفظ الأسد - حسب الوجدان - في نفس المعني الحقيقي لکن بادّعاء انّ المورد - أي الرجل الشجاع - من مصاديقه و أفراده حتّي أثبت له آثار الأسد من اللُبد و الأظفار، و هذا هو خيرة أُستاذنا السيد الإمام الخميني قدس سرُّ
و الحاصل: أنّه لو کان تفهيم المعني الموضوع له هو الغاية من وراء الکلام، فالاستعمال حقيقي، و إن کان مقدّمة و مرآة لتفهيم فرد ادّعائي و لو بالقرينة فالاستعمال مجازي.
الأمر السادس: علامات الحقيقة و المجاز
إذا استعمل المتکلم لفظاً في معني معيّن، فلو عُلِم أنّه موضوع له، سمِّي هذا الاستعمال حقيقيّاً، و أمّا إذا شُکّ في المستعمل فيه و أنّه هل هو الموضوع له أو لا؟ فهناک علامات تميّز بها الحقيقة عن المجاز.
التبادر:
هو انسباق المعني إلي الفهم من نفس اللّفظ مجرّداً عن کلّ قرينة، و هذا يدلّ علي أنّ المستعمل فيه معني حقيقيّ، إذ ليس لحضور المعني في الذهن سبب سوي أحد أمرين، إمّا القرينة، أو الوضع، و الأوّل منتفٍ قطعاً کما هو المفروض، فيثبت الثاني.
2. صحّة الحمل و السلب:
إنّ صحّة الحمل دليل علي أنّ الموضوع الوارد في الکلام قد وضع للمحمول کما أنّ صحّة السلب دليل علي عدم وضعه له.
توضيحه: أنّ الحمل علي قسمين:
الأوّل: الحمل الأوّلي الذاتي، و هو ما إذا کان المحمول نفسَ الموضوع مفهوماً بأن يکون ما يفهم من أحد هما نفسَ ما يفهم من الآخر، مع اختلاف بينهما
في الإجمال و التفصيل کما إذا قلنا: الأسد حيوان مفترس، و الإنسان حيوان ناطق.
الثاني: الحمل الشائع الصناعي، و هو ما إذا کان الموضوع مغايراً للمحمول في المفهوم و متحداً معه في الخارج، کما إذا قلنا: زيد إنسان، فما يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر غير أنّهما متحقّقان بوجود واحد في الخارج.
إذا اتّضح ما تلوناه عليک، فاعلم أنّ المقصود من أنّ صحّة الحمل أو صحّة السلب علامة للحقيقة و المجاز هو القسم الأوّل، فصحّة الحمل و الهوهوية تکشف عن وحدة المفهوم و المعني و هو عبارة أُخري عن وضع أحدهما للآخر، کما أنّ صحّة السلب تکشف عن خلاف ذلک، مثلاً إذا صحّ حمل الحيوان المفترس علي الأسد بالحمل الأوّلي يکشف عن أنّ المحمول نفس الموضوع مفهوماً، و هو عبارة أُخري عن وضع أحدهما للآخر، کما أنّه إذا صحّ سلب الحيوان الناطق عن الأسد بالحمل الأوّلي کما إذا قيل: الأسد ليس حيواناً ناطقاً يکشف عن التغاير المفهومي بينهما، و هو يلازم عدم وضع أحدهما للآخر.
الإطّراد:
هي العلامة الثالثة لتمييز الحقيقة عن المجاز و توضيح ذلک:
إذا اطّرد استعمال لفظ في أفراد کليٍّ بحيثية خاصّة، کاستعمال «رجل» باعتبار الرجولية، في زيد و عمرو و بکر، مع القطع بعدم کونه موضوعاً لکلّ واحد علي حدة، يستکشف منه وجود جامع بين الأفراد قد وضع اللّفظ بازائه.
فالجاهل باللغة إذا أراد الوقوف علي معاني اللغات الأجنبية من أهل اللغة، فليس له سبيل إلاّ الاستماع إلي محاوراتهم، فإذا رأي أنّ لفظاً خاصّاً يستعمل مع محمولات عديدة في معني معيّن، کما إذا قال الفقيه: الماء طاهر و مطهّر، و قال الکيميائي: الماء رطب سيال، و قال الفيزيائي: الماء لا لون له، يقف علي أنّ اللّفظ
موضوع لما استعمل فيه، لأنّ المصحّح له إمّا الوضع أو العلاقة، و الثاني لا اطّراد فيه، فيتعيّن الأوّل.
و لنذکر مثالاً آخر:
إنّ آية الخمس، أعني قوله سبحانه: (واعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَــهُ وَ لِلــرَّسُولِ وَ لِــذِي القُربـي وَ اليَتــامــي وَ المَســـاکِيــنِ وَابْنِ السَّبيـــل ) (الأنفال / 41) توجب إخراج الخمس عن الغنيمة.
فهل الکلمة (الغنيمة) موضوعة للغنائم المأخوذة في الحرب، أو تعمّ کلّ فائدة يحوزها الإنسان من طرق شتي؟
يُستکشف الثاني عن طريق الاطّراد في الاستعمال، فإذا تتبعنا الکتاب و السنّة نجد إطّراد استعمالها في کلّ ما يحوزه الإنسان من أيّ طريق کان.
قال سبحانه: (تَـبْـتَـغُــونَ عَــرَضَ الحَيــاة الــدُّنْيــا فَعِنْــدَ اللهِ مَغــانِمَ کَثِيــرَة) (النساء / 94) ، و المراد مطلق النِّعم و الرزق.
و قال رسول الله صلي الله عليه و آله وسلّم في مورد الزکاة: «اللّهمّ اجْعَلْها مغنماً و في مسند أحمد: «غنيمة مجالس الذکر الجنة»، و في وصف شهر رمضان: غنم المؤمن.
فهذه الاستعمالات الکثيرة المطّردة، تکشف عن وضعه للمعني الأعم.
و هذا هو الطريق المألوف في اقتناص مفاهيم اللغات و معانيها و في تفسير لغات القرآن، و مشکلات السنّة، و عليه قاطبة المحقّقين، و يطلق علي هذا النوع من تفسير القرآن، التفسير البياني.
تنصيص أهل اللغة
المراد من تنصيص أهل اللغة هو تنصيص مدوّني معاجم اللغة العربية، فإنّ مدوّني اللغة الأوائل کالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170 هـ) مؤلّف کتاب «العين»، و الجواهري (ت 398 هـ) مؤلّف الصحاح قد دوّنوا کثيراً من معاني الألفاظ من ألسن القبائل العربية و سُکّان البادية، فتنصيص مثل هؤلاء يکون مفيداً للاطمئنان بالموضوع له.
هذا و سيأتي تفصيل الکلام في حجّية قول اللغوي فانتظر.
الأمر السابع: الأُصول اللفظية
إنّ الشکّ في الکلام يتصوّر علي نحوين:
أ. الشکّ في المعني الموضوع له، کالشکّ في أنّ الصعيد هل وضع للتراب أو لمطلق وجه الأرض؟
ب. الشکّ في مراد المتکلّم بعد العلم بالمعني الموضوع له.
أمّا النحو الأوّل من الشکّ فقد مرّ الکلام فيه في الأمر السادس، و علمتَ أنّ هناک علامات يميز بها المعني الحقيقي عن المجازي.
و أمّا النحو الثاني من الشکّ فقد عُقد له هذا الأمر، فنقول:
إنّ الشکّ في المراد علي أقسام، و في کلّ قسم أصل يجب علي الفقيه تطبيق العمل عليه، و إليک الإشارة إلي أقسام الشکّ و الأُصول التي يعمل بها:
أصالة الحقيقة
إذا شکّ في إرادة المعني الحقيقي أو المجازي من اللفظ، بأن لم يعلم وجود القرينة علي إرادة المعني المجازيّ مع احتمال وجودها، کما إذا شک في أنّ المتکلم هل أراد من الأسد في قوله: رأيت أسداً، الحيوان المفترس أو الجندي الشجاع؟ فعندئذٍ يعالج الشکّ عند العقلاء بضابطة خاصة، و هي الأخذ بالمعني الحقيقي مالم يدلّ دليل علي المعني المجازي، و هذا ما يعبّر عنه بأصالة الحقيقة.
أصالة العموم
إذا ورد عام في الکلام کما إذا قال المولي: أکرم العلماء و شکّ في ورود التخصيص عليه و إخراج بعض أفراده کالفاسق، فالأصل هو الأخذ بالعموم و ترک احتمال التخصيص، و هذا ما يعبّر عنه بأصالة العموم.
أصالة الإطلاق
إذا ورد مطلق و شک في کونه تمام الموضوع أو بعضه، کما قال سبحانه: (أحلّ اللهُ البيــع) (البقرة / 275) و احتمل انّ المراد هو البيع بالصيغة دون مطلقه، فالمرجع عندئذٍ هو الأخذ بالإطلاق و إلغاء احتمال التقييد، و هذا ما يُعبَّر عنه بأصالة الإطلاق.
أصالة عدم التقدير
إذا ورد کلام و احتمل فيه تقدير لفظٍ خاصٍّ، فالمرجع عند العقلاء هو عدم التقدير إلاّ أن تدلّ عليه قرينة، کما في قوله سبحانه: (وَ اسْئَـلِ القـريــة الّتـي کُـنّــا فِـيــهـا) (يوسف / 82) و التقديـر أهل القرية، و هذا مـا يُعبَّر عنه بأصالة عدم التقدير.
أصالة الظهور
إذا کان اللفظ ظاهراً في معني خاص دون أن يکون نصّاً فيه بحيث لا يحتمل معه الخلاف، فالأصل الثابت عند العقلاء هو الأخذ بظهور الکلام و إلغاء احتمال الخلاف، و هذا ما يعبّر عنه بأصالة الظهور.
ثمّ إنّ الأُصول السابقة مصاديق لأصالة الظهور.
و هذه الأُصول ممّا يعتمد عليها العقلاء في محاوراتهم و لم يردع عنها الشارع فهي حجّة.
الأمر الثامن: الاشتراک و الترادف
الاشتراک عبارة عن کون اللفظ الواحد موضوعاً لمعنيين أو أکثر بالوضع التعييني أو التعيّني.
و يقابله الترادف، و هو وضع اللفظين أو الأکثر لمعني واحد کذلک.
واختلفوا في إمکان الاشتراک أوّلاً و وقوعه بعد تسليم إمکانه ثانياً فذهب الأکثر إلي الإمکان، لأنّ أدلّ دليل عليه هو وقوعه، فلفظة العين تستعمل في الباکية و الجارية، و في الذهب و الفضة.
و مردّ الاشتراک إلي اختلاف القبائل العربية القاطنة في أطراف الجزيرة في التعبير عن معني الألفاظ، فقد کانت تُلْزِمُ الحاجة طائفة إلي التعبير عن معني بلفظ، و تُلْزم أُخري التعبيرَ بذلک اللّفظ عن معني آخر، و لمّا قام علماء اللغة بجمع لغات العرب ظهر الاشتراک اللفظي.
و ربّما يکون مردّه إلي استعمال اللّفظ في معناه المجازي بکثرة إلي أن يصبح الثاني معني حقيقياً، کلفظ الغائط، فهو موضوع للمکان الذي يضع فيه الإنسان،
ثمّ کُنِّي به عن فضلة الإنسان، إلي أن صار حقيقة فيها مع عدم هجر المعني الأوّل.
نعم ربّما يذکر أهل اللغة للفظ واحد معاني عديدة، و لکنّها ربما يکون من قبيل المصاديق المختلفة لمعني واحد، و هذا کثير الوقوع في المعاجم.
و قد اشتمل القرآن علي اللّفظ المشترک، کالنجم المشترک بين الکوکب و النبات الذي لا ساق له، قال سبحانه: (وَ النَّجْمِ إِذا هَوي (النجم / 1
و قال سبحانه: (وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدان (الرحمن / 6
هذا کلّه في المشترک اللفظي.
و أمّا المشترک المعنوي، فهو عبارة عن وضع اللّفظ لمعني جامع يکون له مصاديق مختلفة، کالشجر الذي له أنواع کثيرة.
تنبيه
إنّ فهم المعني المجازيّ بحاجة إلي قرينة، کقولک «يرمي» أو «في الحمام» في «رأيت أسداً يرمي أو في الحمّام» کما أنّ تعيين المعني المراد من بين المعاني المتعددة للّفظ المشترک يحتاج إلي قرينة کقولنا: «باکية» أو «جارية» في عين باکية، أو عين جارية، لکن قرينة المجاز قرينة صارفة و معيّنة، و قرينة اللفظ المشترک قرينة معيّنة فقط، و الأُولي آية المجازية دون الثانية.
الأمر التاسع: استعمال المشترک في أکثر من معني
إذا ثبت وجود اللّفظ المشترک، يقع الکلام حينئذٍ في جواز استعماله في أکثر من معني واحد في استعمال واحد، بمعني أن يکون کل من المعنيين مراداً باستقلاله، کما إذا قال: اشتريت العين، و استعمل العين في الذهب و الفضة. فخرج ما إذا استعمله في معني جامع صادق علي کلا المعنيين، کما إذا استعمل العين في «المسمّي بالعين» فإنّ الذهب و الفضة داخلان تحت هذا العنوان، فهذا النوع من الاستعمال ليس من قبيل استعمال المشترک في أکثر من معني.
إذا علمت ذلک، فاعلم أنّه اختُلِفَ في جواز استعمال اللّفظ في أکثر من معني واحد علي أقوال أربعة:
أ. الجواز مطلقاً.
ب. المنع مطلقاً.
ج. التفصيل بين المفرد و غيره و التجويز في الثاني.
د. التفصيل بين الإثبات و النفي والتجويز في الثاني.
و الحق جوازه مطلقاً، و أدلّ دليل علي إمکانه وقوعه، و يجد المتتبع في کلمات الأُدباء نماذج من هذا النوع في الاستعمال: يقول الشاعر في مدح النبي صلي الله عليه و آله وسلّم : المُرتمي في الدجي، و المُبتلي بِعَمي و المُشتکي ظمأً و المبتغي دَيْنــاً يــأتــون ســدَّتَــه مــن کــلِّ نـــاحيـة و يستفيــــدون مــن نعمائه عينـاً
فاستخدم الشاعر لفظ «العين» في الشمس، و البصر، والماء الجاري و الذهب؛ حيث إنّ المرتمي في الدجي، يطلب الضياء؛ و المبتلي بالعمي، يطلب العين الباصرة؛ و الإنسان الظهآن يريد الماء؛ و المستدين يطلب الذهب.
الأمر العاشر: الحقيقة الشرعية
ذهب أکثر الأُصوليين إلي أنّ ألفاظ العبادات کالصلاة والصوم و الزکاة والحج کانـت عند العـرب قبل الإسلام مستعملـة في معانيهـا اللغويـة علي وجه الحقيقة، أعني: الدعاء، و الإمساک، و النمو، و القصد، و هذا ما يعبّر عنه بالحقيقة اللغوية.
و إلي أنّ تلک الألفاظ في عصر الصادقين عليهما السلام و قبلهما بقليل، کانت ظاهرة في المعاني الشرعية الخاصة بحيث کلّما أطلقت الصلاة والصوم و الزکاة تتبادر منها معانيها الشرعية.
إنّما الاختلاف في أنّه کيف صارت هذه الألفاظ حقيقة في المعاني الشرعية في عصر الصادقين عليهما السلام و قبلهما بقليل؟ فهنا قولان:
أ. ثبوت الحقيقة الشرعية في عصر النبوّة.
ب. ثبوت الحقيقة المتشرّعية بعد عصر النبوة.
أمّا الأوّل: فحاصله: أنّ تلک الألفاظ نقلت في عصر النبي صلي الله عليه وآله وسلّم من معانيها اللغوية إلي معانيها الشرعية بالوضع التعييني أو التعيّني حتي صارت حقائق شرعية في تلک المعاني في عصره، لأنّ تلک الألفاظ کانت کثيرة التداول بين المسلمين لا سيّما الصلاة التي يؤدّونها کلّ يوم خمس مرّات و يسمعونها کراراً من فوق المآذن.
و من البعيــد أن لا تصبح حقــائق في معـانيهـا المستحدثـة في وقــت ليس بقليل.
و أما الثاني فحاصله: أنّ صيرورة تلک الألفاظ حقائق شرعية علي لسان
النبي صلي الله عليه و آله وسلّم يتوقف علي الوضع و هو إمّا تعييني أو تعيّني، و الأوّل بعيد جداً، و إلاّ نقل إلينا، والثاني يتوقف علي کثرة الاستعمال التي هي بحاجة إلي وقت طويل، و أين هذا من قصر مدّة عصر النبوّة؟!
يلاحظ عليه: أنّ عصر النبوّة استغرق 23 عاماً، و هي فترة ليست قصيرة لحصول الوضع التعيّني علي لسانه، و إنکاره مکابرة.
ثمرة البحث
و أمّا ثمرة البحث بين القولين، فتظهر في الألفاظ الواردة علي لسان النبي صلي الله عليه و آله وسلّم بلا قرينة، فتحمل علي الحقيقة الشرعية بناءً علي ثبوتها و علي الحقيقة اللغوية بناءً علي إنکارها.
و الظاهر انتفاء الثمرة مطلقاً، لعدم الشکّ في معاني الألفاظ الواردة في الکتاب و السنّة لکي يتوقف فهـم معــانيها علي ثبوت الحقيقة الشرعية أو نفيها إلاّ نادراً.
الأمر الحادي عشر: الصحيح و الأعم
هل أسماء العبادات والمعاملات موضوعة للصحيح منهما، أو للأعم منه؟
تطلق الصحّة في اللغة تارة علي ما يقابل المرض، فيقال: صحيح و سقيم. و أُخري علي ما يقابل العيب، فيقال: صحيح و معيب.
و أمّا الصحة اصطلاحاً في العبادات فقد عرِّفت تارة بمطابقة المأتي به للمأمور به، و أُخري بما يوجب سقوط الإعادة و القضاء، ويقابلها الفساد. و أمّا في المعاملات فقد عُرِّفت بما يترتّب عليه الأثر المطلوب منها، کالملکية في البيع، و الزوجية في النکاح و هکذا.
و المراد من وضع العبادات للصحيح هي أنّ ألفاظ العبادات وضعت لما تمّت أجزاؤها و کملت شروطها، أو للأعم منه و من الناقص.
المعروف هو القول الأوّل، و استدلّ له بوجوه مسطورة في الکتب الأُصولية أوضحها:
إنّ الصلاة ماهية اعتبارية جعلها الشارع لآثار خاصّة وردت في الکتاب و السنّة، منها: کونها ناهية عن الفحشاء و المنکر، أو معراج المؤمن، و غير هما، و هذه الآثار إنّما تترتب علي الصحيح لا علي الأعمّ منه، و هذا (أي ترتّب الأثر علي الصحيح) ممّا يبعث الواضع إلي أن يضــع الألفاظ لما يُحصّل أغراضه و يؤمِّن أهدافـه، و ليس هو إلاّ الصـحيح. لأنّ الوضــع للأعمّ الذي لا يترتّـب عليــه الأثـر، أمر لغو.
استدلّ القائل بالأعم بوجوه أوضحها صحّة تقسيم الصلاة إلي الصحيحة و الفاسدة.
و أُجيب عنه بأنّ غاية ما يفيده هذا التقسيم هو استعمال الصلاة في کلّ من الصحيح و الفاسد، و الاستعمال أعمّ من الحقيقة.
و أمّا المعاملات فهنا تصويران:
الأوّل: انّ ألفاظ العقود، کالبيع و النکاح؛ و الإيقاعات، کالطلاق و العتق، موضوعة للأسباب التي تُسبِّب الملکية و الزوجية و الفراق و الحريــة، و نعني بالسبب إنشاء العقد و الإيقاع، کالإيجاب و القبـول في العقـود، و الإيجــاب فقط کـما في الإيقاع.
وعليه يأتي النزاع في أنّ ألفاظها هل هي موضوعة للصحيحة التامّة الأجزاء
و الشرائط المؤثرة في المسبب، أو للأعم من التام و الناقص غير المؤثر في المسبب؟
الثاني: أن تکون الألفاظ موضوعة للمسببات، أي ما يحصل بالأسباب کالملکية و الزوجية و الفراق و الحرية، و بما أنّ المسببات من الأُمور البسيطة، التي يدور أمرها بين الوجود و العدم، فلا يتأتي علي هذا الفرض، النزاع السابق لأنّ الملکية إمّا موجودة و إمّا معدومة کما أنّ الزوجية إمّا متحقّقة أو غير متحقّقة، ولا يتصوّر فيهما ملکية أو زوجية فاسدة.
الأمر الثاني عشر: هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل أو الأعم منه و ممّا انقضي عنه المبدأ
إنّه اتّفقت کلمتهم علي أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس بالمبدأ بالفعل و مجاز فيما يتلبّس به في المستقبل، واختلفوا فيما انقضي عنه التلبّس، مثلاً إذا ورد النهي عن التوضّؤ با لماء المسخّن بالشمس، فتارة يکون الماء موصوفاً بالمبدأ بالفعل، و أُخري يکون موصوفاً به في المستقبل، و ثالثة کان موصوفاً به لکنّه زال و برد الماء، فإطلاق المشتق علي الأوّل حقيقة، و دليل الکراهة شامل له، کما أنّ إطلاقه علي الثاني مجاز لا يشمله دليلها، و أمّا الثالث فکونه حقيقة أو مجازاً و بالتالي شمول دليلها له و عدمه مبنيّ علي تحديد مفهوم المشتق، فلو قلنا بأنّه موضوع للمتلبّس بالمبدأ بالفعل يکون الإطلاق مجازياً والدليل غير شامل له، و لو قلنا بأنّه موضوع لما تلبّس به ولو آناً ما فيکون الإطلاق حقيقيّاً والدليل شاملاً له.
والمشهور انّه موضوع للمتلبس بالفعل.
و قبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:
1 . الفرق بين المشتق النحويّ و الأُصولي
المشتق عند النحاة يقابل الجامد، فيشمل الماضي و المضارع و الأمر و النهي و اسم الفاعل و مصادر أبواب المزيد.
و أمّا المشتق عند الأُصوليّين، فهو عبارة عمّا يُحمل علي الذات باعتبار اتصافها بالمبدأ و اتحادها معه بنحو من الاتحاد، ولا تزول الذات بزواله فخرجت الأفعال قاطبة و المصادر لعدم صحّة حملهما علي الذوات علي نحو الهوهوية، والأوصاف التي تزول الذات بزوالها کالناطق فلم يندرج فيه إلاّ اسم الفاعل و المفعول و أسماء الزمان و المکان و الآلات و الصفات المشبهة و صيغ المبالغة و أفعل التفضيل و يشمل حتي الزوجة و الرق و الحر لوجود الملاک المذکور في جميعها، فإذن النسبة بين المشتق النحوي و المشتق الأُصولي عموم و خصوص من وجه.
2. اختلاف أنحاء التلبّسات حسب اختلاف المبادئ
ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم انّ بعضها حقيقة في المتلبس و بعضها في الأعمّ، نظير الکاتب و المجتهد و المثمر، فما يکون المبدأ فيه حرفة أو ملکة أو قوّة يصدق فيه هذه الثلاثة و إن زال التلبّس، فهي موضوعة للأعم بشهادة صدقها مع عدم تلبّسها بالکتابة و الاجتهاد و الإثمار بخلاف غيرها ممّا کان المبدأ فيه أمراً فعلياً، کالأبيض و الأسود.
يلاحظ عليه: أنّ المبدأ يؤخذ تارة علي نحو الفعلية کقائم، و أُخري علي نحو الحرفة کتاجر، و ثالثة علي نحو الصناعة کنجّار، و رابعة علي نحو القوّة کقولنا: شجرة مثمرة، و خامسة علي نحو الملکة کمجتهد.
فإذا اختلفت المبادئ جوهراً و مفهوماً لاختلف أنحاء التلبّسات بتبعها أيضاً، وعندئذٍ يختلف بقاء المبدأ حسب اختلاف المبادئ، ففي القسم الأوّل يشترط في صدق التلبّس تلبّس الذات بالمبدأ فعلاً، و في القسم الثاني و الثالث يکفي عدم إعراضه عن حرفته وصناعته و إن لم يکن ممارساً بالفعل، و في الرابع يکفي کونه متلبّساً بقوة الإثمار و إن لم يثمر فعلاً، و في الخامس يکفي حصول الملکة و إن لم يمارس فعلاً، فالکلّ داخل تحت المتلبّس بالمبدأ بالفعل، و بذلک علم أنّ اختلاف المبادئ يوجب اختلاف طول زمان التلبّس و قصره ولا يوجب تفصيلاً في المسألة.
فما تخيّله القائل مصداقاً لمن انقضي عنه المبدأ، فإنّما هو من مصاديق المتلبّس و منشأ التخيّل هو أخذ المبدأ في الجميع علي نسق واحد، و قد عرفت أنّ المبادئ علي أنحاء.
إذا عرفت ما ذکرنا فاعلم أنّ مرجع النزاع إلي سعة المفاهيم وضيقها و أنّ الموضوع له هل هو خصوص الذات المتلبّسة بالمبدأ أو الأعمّ من تلک الذات المنقضي عنها المبدأ فعلي القول بالأخصّ، يکون مصداقه منحصراً في الذات المتلبّسة، و علي القول بالأعمّ يکون مصداقه أعمّ من هذه و ممّا انقضي عنها المبدأ.
استدل المشهور علی أن المشتق موضوع للمتلبس با لمبدأ با الفعل بأمرین :
1. التبادر ، إن المتبار من المشتق هو المتلبس با امبدأ بالفعلک ، فلو قیل :
صلّ خلف العادل، أو أدّب الفاسق، أو قيل: لا يصلين أحدکم خلف المجذوم و الأبرص و المجنون، أو لا يؤم الأعرابي المهاجرين؛ لا يفهم منه إلاّ المتلبّس بالمبدأ في حال الاقتداء.
2. صحّة السلب عمّن انقضي عنه المبدأ، فلا يقال لمن هو قاعد بالفعل انّه قائم إذا زال عنه القيام، و لا لمن هو جاهل بالفعل، انّه عالم إذا نسي علمه.
و أمّا القائلون بالأعم فاستدلّوا بوجهين:
الأوّل: صدق أسماء الحِرَف کالنجار علي من انقضي عنه المبدأ، مثل أسماء الملکات کالمجتهد.
و قد عرفت الجواب عنه و أنّ الجميع من قبيل التلبّس بالمبدأ لا الزائل عنه المبدأ.
الثاني: لو تلبس بالمبدأ في الزمان الماضي يصح أن يقال انّه ضارب باعتبار تلبّسه به في ذلک الزمان.
يلاحظ عليه: أنّ اجراء المشتق علي الموضوع في المثال المذکور يتصوّر علي وجهين.
أ. أن يکون زمان التلبّس بالمبدأ في الخارج متحداً مع زمان النسبة الکلامية، کأن يقول زيد ضارب أمس، حاکياً عن تلبّسه بالمبدأ في ذلک الزمان، فهو حقيقة و معدود من قبيل المتلبّس لأنّ المراد کونه ضارباً في ذلک الظرف.
ب. أن يکون زمان التلبّس بالمبدأ في الخارج مختلفاً مع زمان النسبة الکلامية، کأن يقول: زيد - باعتبار تلبّسه بالمبدأ أمس - ضارب الآن، فالجري مجاز و من قبيل ما انقضي عنه المبدأ.
تطبيق
1 . قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما السلام : أين يتوضأ الغرباء؟ قال: «تتّقي شطوط الأنهار، و الطرق النافذة، و تحت الأشجار المثمرة
فعلي القول بالوضع للمتلبس بالمبدء يختص الحکم بما إذا کانت مثمرة ولو بالقوة، کما هي الحال في فصل الشتاء بخلاف القول بالأعم من المتلبس و غيره فيشمل الشجرة غير المثمرة ولو بالقوة کما إذا فقدت قوّة الإثمار لأجل طول عمرها.
2. عن أبي عبدالله عليه السلام : في المرأة ماتت و ليس معها امرأة تغسلها، قال: «يدخل زوجها يده تحت قميصها فيغسلها إلي المرافق
فلو قلنا بأنِّ المشتق حقيقة في المنقضي أيضاً، فيجوز للزوج المطلِّق تغسيلها عند فقد المماثل و إلاّ فلا.
إذا وقفت علي تلک الأُمور، فاعلم أنّ کتابنا هذا مرتّب علي مقاصد، وکلّ مقصد يتضمن فصولاً:
المقصد الأوّل في الأوامر وفيه فصول:
الفصل الأوّل: في مادة الأمر.
الفصل الثاني: في هيئة الأمر.
الفصل الثالث: في إجزاء امتثال الأمر الواقعي و الظاهري.
الفصل الرابع: مقدمة الواجب و تقسيماتها.
الفصل الخامس: في تقسيمات الواجب.
الفصل السادس: اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.
الفصل السابع: إذا نسخ الوجوب فهل يبقي الجواز.
الفصل الثامن: الأمر بالأمر بفعل، أمر بذلک الفعل.
الفصل التاسع: الأمر بالشيء بعد الأمر به تأکيد أو تأسيس.
الفصل الأوّل في مادّة الأمر
و فيه مباحث:
المبحث الأوّل: لفظ الأمر مشترک لفظي
إنّ لفظ الأمر مشترک لفظي بين معنيين هما:
الطلب و الفعل، و إليهما يرجع سائر المعاني التي ذکرها أهل اللغة.
لا خلاف بين الجميع في صحّة استعماله في الطلب کقوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فَتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (النور/63
و إنّما الخلاف في المعني الثاني، و الظاهر صحّة استعماله في الفعل لوروده في القرآن. کقوله سبحانه: (قُلْ إِنَّ الأمْرَ کُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَکَ) (البقرة/210) و وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ- آل عمران/159
ثمّ الأمر إن کان بمعني الطلب - أي طلب الفعل من الغير - فيجمع علي أوامر، کما أنّه إذا کان بمعني الفعل فيجمع علي أُمور والاختلاف في صيغة الجمع دليل علي أنّه موضوع لمعنيين مختلفين.
المبحث الثاني: اعتبار العلوّ و الاستعلاء في صدق مادّة الأمر بمعني الطلب
اختلف الأُصوليون في اعتبار العلو و الاستعلاء في صدق الأمر بمعني الطلب علي أقوال:
1 يعتبر في صدق مادة الأمر وجود العلوّ في الآمر دون الاستعلاء لکفاية صدور الطلب من العالي و إن کان مستخفضاً لجناحه عند العقلاء، و هو خيرة المحقّق الخراساني قدس سرُّه.
2يعتبر في صدق مادة الأمر کلا الأمرين، فلا يعدّ کلام المولي مع عبده أمراً إذا کان علي طريق الاستدعاء، و هو خيرة السيد الإمام الخميني قدس سرُّه.
3يعتبر في صدق مادة الأمر أحد الأمرين: العلو أو الاستعلاء، أمّا کفاية العلوفلما تقدّم في دليل القول الأوّل، و أمّا کفاية الاستعلاء، فلأنّه يصحّ تقبيح الطالب السافل المستعلي، ممّن هو أعلي منه و توبيخه بمثل «انّک لم تأمرني».
4لا يعتبر في صدق مادة الأمر واحد منهما، و هو خيرة المحقّق البروجردي قدّس سرُّه.
الظاهر هو القول الثاني، فإنّ لفظ الأمر في اللغة العربية معادل للفظ «فرمان» في اللغة الفارسية، و هو يتضمن علوّ صاحبه، ولذلک يذم إذا أمر ولم يکن عالياً.
و أمّا اعتبار الاستعلاء فلعدم صدقه إذا کان بصورة الاستدعاء، و يشهد له قول بريرة لرسول الله صلي الله عليه و آله وسلّم «تأمرني يا رسول الله؟ قال: إنّما أنا شافع» فلو کان
مجرد العلو کافياً لما انفک طلبه من کون أمراً.
المبحث الثالث: في دلالة مادة الأمر علي الوجوب
إذا طلب المولي من عبده شيئاً بلفظ الأمر کأن يقول: آمرک بکذا، فهل يدل کلامه علي الوجوب أو لا؟
الظاهر هو الأوّل، لأنّ السامع ينتقل من سماع لفظ الأمر إلي لزوم الامتثال الذي يعبّر عنه بالوجوب، و يُؤيَّد هذا الانسباق و التبادر بالآيات التالية:
قوله سبحانه: (فَلْيَحْذَرِ الّذينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصيبَهُمْ عَذابٌ أَليم) (النور/63) حيث هدّد سبحانه علي مخالفة الأمر، و التهديد دليل الوجوب.
قوله سبحانه: (ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ) (الأعراف/12) حيث ذمّ سبحانه إبليس لمخالفة الأمر، و الذم آية الوجوب.
قوله تعالي: (عَلَيْها مَلائِکَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) (التحريم/6) حيث سمّي سبحانه مخالفة الأمر عصياناً، و الوصف بالعصيان دليل الوجوب.
مضافاً إلي ورد في قوله صلي الله عليه و آله وسلّم : «لولا أن أشُقّ علي أُمّتي لأمرتهم بالسوال». و لزوم المشقّة آية کونه مفيداً للوجوب إذ لا مشقّة في الاشتحباب
الفصل الثاني في هيئة الأمر
و فيه مباحث:
المبحث الأوّل: في بيان مفاد الهيئة
اختلف کلمة الأُصوليين في معني هيئة افعل علي أقوال منها:
انّها موضوعة للوجوب.
انّها موضوعة للندب.
انّها موضوعة للجامع بين الوجوب و الندب، أي الطلب إلي غير ذلک.
والحقّ انّها موضوعة لإنشاء البعث إلي إيجاد متعلّقه و يدلّ عليه التبادر والانسباق، فقول المولي لعبده: اذهب إلي السوق و اشتر اللحم عبارة أُخري عن بعثه إلي الذهاب و شراء اللحم.
ثمّ إنّ بعث العبد إلي الفعل قد يکون بالإشارة باليد، کما إذا أشار المولي بيده إلي خروج العبد و ترکه المجلس، و أُخري بلفظ الأمر کقوله: اخرج، فهيئة افعل في الصورة الثانية ثائمة مقام الإشارة باليد، فکما أنّ الإشارشة باليد تفيد البعث إلي المطلوب، فهکذا القائم مقامها من صيغة افعل، و إنّما الاختلاف في کيفية الدلالة،
فدلالة الهيئة علي إنشاء البعث لفظية بخلاف دلالة الأُولي.
سؤال: انّ هيئة افعل و إن کانت تستعمل في البعث کقوله سبحانه: (وَأَقِيمُوا الصَّلاة وَ آتُوا الزَّکاة) (البقرة/43) أو قوله: (أَوفُوا بِالعُقود) (المائدة/1 ) و لکن ربما تستعمل في غير البعث أيضاً:
کالتعجيز مثل قوله سبحانه: (وَ إِنْ کُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلنا عَلي عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (البقرة/23.
والتمنّي کقول الشاعر: ألا أيّها الليل الطـويـل ألا انجلي بصبح و مـا الإصبـاح منک بأمثل
إلي غير ذلک من المعاني المختلفة المغايرة للبعث. فيلزم أن تکون الهيئة مشترکة بين المعاني المختلفة من البعث و التعجيز و التمنّي.
الجواب: انّ هيئة افعل قد استعملت في جميع الموارد في البعث إلي المتعلّق والاختلاف إنّما هو في الدواعي، فتارة يکون الداعي من وراء البعث هو إيجاد المتعلّق في الخارج، و أُخري يکون الداعي هو التعجيز، و ثالثة التمني، و رابعة هو الإنذار کقوله: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَي الله عَمَلَکُمْ وَ رسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ) (التوبة/105) إلي غير ذلک من الدواعي، ففي جميع الموارد يکون المستعمل فيه واحداً و إنّما الاختلاف في الدواعي من وراء إنشائه.
و نظير ذلک، الاستفهام فقد يکون الداعي هو طلب الفهم، و أُخري أخذ الإقرار مثل قوله: (هَلْ يَسْتَوي الّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الّذينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر/9). والمستعمل فيه في الجميع واحد و هو إنشاء طلب الفهم.
المبحث الثاني: دلالة هيئة الأمر علي الوجوب
قد عرفت أنّ هيئة إفعل موضوعة لإنشاء البعث و أنّها ليست موضوعة للوجوب و لا للندب، وأنّهما خارجان عن مدلول الهيئة - و مع ذلک - هناک بحث آخر، و هو أنّه لا إشکال في لزوم امتثال أمر المولي إذا علم أنّه يطلب علي وجه اللزوم إنّما الکلام فيما إذا لم يعلم فهل يجب امتثاله أو لا؟ الحقّ هوالأوّل.
لأنّ العقل يحکم بلزوم تحصيل المؤمِّن في دائرة المولوية و العبودية ولا يصحّ ترک المأمور به بمجرّد احتمال أن يکون الطلب طلباً ندبياً و هذا ما يعبّر عنه في سيرة العقلاء بأنّ ترک المأمور به لابدّ أن يستند إلي عذر قاطع، فخرجنا بالنتيجة التالية:
انّ المدلول المطابقي لهيئة إفعل هو إنشاء البعث.
الوجوب و لزوم الامتثال مدلول التزامي لها بحکم العقل.
المبحث الثالث: استفادة الوجوب من أساليب أُخري
إنّ للقرآن و السنّة أساليب أُخري في بيان الوجوب و الإلزام غير صيغة الأمر، فتارة يعبّر عنه بلفظ الفرض و الکتابة مثل قوله سبحانه: (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَکُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِکُمْ) (التحريم/2)، و قال: (کُتِبَ عَلَيْکُمُ الصِّيام) (البقرة/182)، و قال: إِنَّ الصلاةَ کانَتْ عَلي المُؤْمِنينَ کِتاباً مَوقُوتاً (النساء/103
و أُخري يجعل الفعل في عهدة المکلّف قال: وَ للهِ عَلَي النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً -آل عمران/97
و ثالثة يخبر عن وجود شيء في المستقبل مشعراً بالبعث الناشئ عن إرادة
أکيدة، قال سبحانه: و الوالِداتُ يُِرضِعْنَ أَولادَهُنَّ حَولَيْنِ کامِلَين البقرة/233
وأمّا السنّة فقد تظافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت في أبواب الطهارة و الصلاة و غيرهما قولهم: «يَغْتَسِلُ»، «يُعيدُ الصلاة» أو «يستَقْبِل القبلة» فالجمل الخبرية في هذه الموارد و إن استعملت في معناها الحقيقي، أعني: الإخبار عن وجود الشيء في المستقبل، لکن بداعي الطلب و البعث. وقد عرفت أنّ بعث المولي لا يترک بلا دليل.
المبحث الرابع: الأمر عقيب الحظر
إذا ورد الأمر عقيب الحظر فهل يحمل الأمر علي الوجوب أولا؟
فمثلاً قال سبحانه: أُحِلَّتْ لَکُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ إِلاّ ما يُتلي عَلَيْکُمْ غَير مُحِلّي الصيدِ وَ أَنْتُمْ حُرُم
ثمّ قال: (وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا (المائدة/1 و2
فقد اختلف الأُصوليون في مدلول هيئة الأمر عقيب الحظر علي أقوال:
أ. ظاهرة في الوجوب.
ب. ظاهرة في الإباحة.
ج. فاقدة للظهور.
و الثالث هو الأقوي، لأنّ تقدّم الحظر يصلح لأن يکون قرينة علي أنّ الأمر الوارد بعده لرفع الحظر لا للإيجاب، فتکون النتيجة هي الإباحة، کما يحتمل أنّ المتکلم لم يعتمد علي تلک القرينة و أطلق الأمر لغاية الإيجاب، فتکون النتيجة هي الوجوب، و لأجل الاحتمالين يکون الکلام مجملاً.
نعم إذا قامت القرينة علي أنّ المراد هو رفع الحظر فهو أمر آخر خارج عن البحث.
+ نوشته شده در ساعت توسط اموزش اصول فقه
|