دانلود الموجز آيت الله سبحاني – قسمت هفتم
الفصل الثاني
أصالة التخيير
إذا دار الامر بين وجوب شيء و حرمته، فهنا مسائل آربع: المسالة الاولي: دوران الامر بين المحذورين لفقدان النصو ذلک کدفن الکافر لو تردد حکمه بين الوجوب و الحرمة و لم يکن دليل معتبر في البين.
لا شک ان المکلف مخير بين الفعل و الترک تخييرا تکوينيا علي وجه ليس بإمکانه المخالفة القطعية، لامتناع الجمع بين الفعل و الترک مع وحدة زمان العمل، و لا الموافقة القطعية لنفس السبب. و اما من حيث الحکم الظاهري فالمقام محکوم بالبراءة عقلا و شرعا.
اما جريان البراءة العقلية، فلأن موضوعها هو عدم البيان الوافي، و المراد من الوافي ما لو اقتصر عليه المکلف لکفي في نظر العقلاء، و يقال انه أدي الوظيفة في مقام البيان، و لکن الحکم المردد بين الوجوب و الحرمة ليس بيانا وافيا لدي العقلاء حتي يصح للمتکلم السکوت عليه، فيکون من مصاديق، قبح العقاب بلابيان.
و اما جريان البراءة الشرعية فلأن موضوعها هو الجهل بالحکم الواقعي و المفروض وجود الجهل، و العلم بالالزام الجامع بين الوجوب و الحرمة ليس علما

بالحکم الواقعي، فيشمله قولهعليه السلام : "رفع عن امتي مالا يعلمون".
المسالة الثانية: دوران الامر بين المحذورين لاجمال النص
اذا دار الامر بين الوجوب والحرمة من جهة اجمال الدليل، کالامر المردد بين الايجاب و التهديد فالحکم فيه کالحکم في المسالة السابقة.
المسالة الثالثه: دوران الأمر بين المحذرين لتعارض النصين
لو دار الامر بين الوجوب و الحرمة من جهة تعارض الادلة، فالحکم هو التخيير شرعا- أي الأخذ باحد الدليلين بحکم الشرع- لاطلاق ادلته.
روي الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام : قلت: يجيئنا الرجلان- و کلاهما ثقة- بحديثين مختلفين، و لا نعلم ايهما الحق، قال: "فاذا لم تعلم فموسع عليک بايهما أخذت".اضف الي ذلک ان بعض روايات التخيير وردت في دوران الامر بين المحذورين.
المسألة الرابعة: دوران الامر بين المحذورين في الشبهة الموضوعية
اذا وجب إکرام العادل و حرم إکرام الفاسق، و اشتبه حال زيد من حيث الفسق و العدالة، فالحکم في المسالة الاولي طابق النعل بالنعل.
ثم اذا دار الامر بين المحذورين و کانت الواقعة واحدة، فلا شک انه مخير عقلا بين الامرين، مع جريان البراءة عن کلا الحکمين في الظاهر، اما لو کانت لها

افراد في طول الزمان، کما اذا تردد ( اکرام زيد في کل جمعة الي شهر) بين الوجوب و الحرمة، فيقع الکلام في ان التخيير العملي هل هو حکم استمراري، فله ان يختار في الجمعة الثانية غير ما اختاره في الجمعة الاولي، و ان استلزم ذلک، المخالفة القطعية، او لا، بل التخيير ابتدائي فلا يجوز له ان يکرمه في الجمعة الاولي دون الثانية؟
الظاهر عدم کونه استمراريا، لانه لا فرق في تنجيز العلم الاجمالي و حرمة المخالفة بين کون الواقعة دفعية او تدريجية، فکما تحرم المخالفة العملية الدفعية کذلک تحرم التدريجية ايضا، فانه يعلم بانه لو أکرم زيدا في الجمعة الاولي و ترک إکرامة في الجمعة الثانية، فقد ارتکب مبغوضا للشارع.
فالمانع هو تنجيز العلم الاجمالي مطلقا في الدفعيات و التدريجيات، و عدم الفرق بينهما الحکم العقل بلزوم إطاعة المولي و حرمة المخالفة حسب الامکان و الاستطاعة.
فتلخص ان الحکم بالتخيير عند دوران الامر بين المحذورين لا يکون حجة علي جواز المخالفة القطعية، و هذه ضابطة کلية تجب مراعاتها.

الفصل الثالث
أصالة الاحتياط
هذا هو الاصل من الاصول العلمية و يعبر عنه بأصالة الاشتغال أيضا و مجراه هو الشک في المکلف به مع العلم باصل التکليف و امکان الاحتياط.
ثم الشبهة تنقسم الي تحريمية و وجوبية، فيقع الکلام في مقامين:
المقام الاول: الشبهة التحريمية
مقتضي التقسيم السابق في الشک في التکليف يقتضي ان يکون هنا ايضا مسائل أربع، لان الشبهة إما حکمية، أو موضوعية، و منشا الشک في الحکمية اما فقدان النص، أو اجماله، أو تعارض النصين، و لکن کل ذلک فروض نظرية لا واقع لها في الفقه فالتي لها تطبيقات عملية ملموسة في الفقه هي المسالة الرابعة، اي الشبهة التحريمية الموضوعية، و اما المسائل الثلاث الحکمية، فليست لها تطبيقات عملية، و لذلک نکتفي بالمسالة الرابعة.
ثم ان الشبهة الموضوعية التحريمية من الشک في المکلف به تنقسم الي قسمين، لان الحرام المشتبه بغيره، اما مشتبه في الامور محصورة، کما لو دار الحرام بين

أمرين أو امور محصورة، و تسمي بالشبهة المحصورة؛ و اما مشتبه في الامور غير محصورة، و تسمي بالشبهة غير المحصورة، فاليک دراسة حکم کلا القسمين.
حکم الشبهة المحصورة
اذا قامت الاماراة علي حرمة شيء و شمل اطلاق الدليل مورد العلم الاجمالي، کما اذا قال : اجتنب عن النجس، و کان مقتضي إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالا ايضا، فالکلام في الجواز المخالفة القطعية او الاحتمالية يقع في موردين:
الاول: مقتضي القاعدة الاولية:
الثاني: مقتضي القاعدة الثانوية:
اما الاول فمقتضي القاعدة هو حرمة المخالفة القطعية و الاحتمالية معا بمعني انه لا يجوز ارتکاب جميع الاطراف (المخالفة القطعية) أو بعضها (الاحتمالية) و الدليل علي ذلک وجود المقتضي و عدم المانع.
اما الاول فلأن اطلاق قول الشارع مثلا اجتنب عن الخمر يشمل الخمر المعين والخمر المردد بين الاناءين أو ازيد.
و اما الثاني فلان العقل لا يمنع من تعلق التکليف عموما او خصوصا بالاجتناب عن الحرام المشتبه بين امرين کما لا يمنع عن العقاب علي مخالفة هذا التکليف.
و علي ضوء ذلک، فالاشتغال القطعي بالحرمة(وجود المقتضي) و عدم المانع عن تنجز التکليف، يقتضي البراءة اليقينية بالاجتناب عن کلتا المخالفتين:القطعية و الاحتمالية.
هذا کله حول القاعدة الاولية، و اما القاعدة الثانوية بمعني ورود الترخيص من

الشارع في ارتکاب الجميع أو البعض أو عدم وروده، فالتتبع في الروايات يقضي بعدم وروده مطلقا بعضا او کلا، بل ورد التاکيد علي الاجتناب عن حميع الاطراف و اليک بعض ما ورد:
1. روي سماعة، قال : سالت أبا عبدالله عليه السلام عن رجل معه اناءان فيهما ماء وقع في احدهما قذر لا يدري ايهما هو وليس يقدر علي ماء غيره، قال: يهر يقهما و يتيمم.
2. روي زرارة، قال : قلت له: اني قد علمت انه قد اصابه (الدم) و لم ادر أين هو فاغسله؟ قال : تغسل من ثوبک الناحية التي تري انه قد اصابه حتي تکون علي يقين من طهارتک.
الاستدلال علي جواز الترخيص
و ربما يستدل علي جواز الترخيص ببعض الروايات منها: کل شيء هولک حلال حتي تعلم انه حرام بعينه.
وجه الاستدلال: ان قوله: «بعينه» تاکيد للضمير في قوله: «انه» فيکون المعني حتي تعلم انه بعينه حرام، فيکون مفاده ان محتمل الحرمة مالم يتعين انه بعينه حرام، فهو حلال، فيعم العلم الاجمالي و الشبهة البدوية.
الجواب: ان تلک الفقرة ليست رواية مستقلة، بل هي جزء من الرواية مسعدة ابن صدقة، عن ابي عبدالله عليه السلام قال: سمعته، يقول: "کل شيء هو لک حلال حتي تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسک، و ذلک مثل الثوب يکون عليک قد اشتريته و

هو سرقة، و المملوک عندک لعله حر قد باع نفسه، او خدع فبيع قهرا، او امراة تحتک و هي اختک او رضيعتک، و الاشياء کلها علي هذا حتي يستبين لک غير ذلک، او تقوم به البينة"
و الامثلة الواردة في ذلک الحديث کلها من الشبهة البدوية، و هذا يوجب انصراف اطلاق الحديث الي مواردها، و عدم عموميته لموارد العلم الاجمالي، و لو کان الحديث عاما لکلا الموردين لکان له عليه السلام : الاتيان بمثال لصورة العلم الاجمالي.
الشبهة غير المحصورة
اتفق الاصوليون علي عدم تنجيز العلم الاجمالي في اطراف الشبهة التحريمية الموضوعية غير المحصورة، و لابد من تحديد الموضوع (غير المحصورة) اولا، ثم بيان حکمها ثانيا:
اما الاول فبيانه انه ربما تبلغ اطراف الشبهة الي حد يوجب ضعف احتمال کون الحرام في طرف خاص بحيث لا يعتني به الغقلاء، و يتعاملون معه معاملة الشک البدوي، فلو اخبر احد باحتراق بيت في بلد او اغتيال انسان فيه، و للسامع فيه بيت او ولد لا يعتد بذلک الخبر.
و اما حکمها، فلو علم المکلف علما وجدانيا بوجود تکليف قطعي او احتمالي بين الاطراف علي وجه لا يرضي المولي بمخالفته علي فرض وجوده، فلا يجوز الترخيص لا في کلها و لا في بعضها، و لکن الکلام في مقام آخر، و هو انه اذا دل دليل الشرعي علي حرمة الشيء و کان مقتضي اطلاق الدليل حرمته مطلقا، و ان کانت غير محصورة، فهل هناک دليل اقوي يقدم علي ذلک الاطلاق؟
و قد استدل القوم علي وجود دليل يقدم علي الاطلاق بوجوه نذکربعضها:
الاول: ان الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة امر موجب للعسر و الحرج، و معه لا يکون التکليف فعليا، فيجوز ارتکاب الاطراف جميعا او بعضها.
الثاني: الروايات الواردة حول الجبن و غيرها المحمولة علي الشبهة غير المحصورة، الدالة علي عدم وجوب الاجتناب، منها:
1. روي اسحاق بن عمار عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم، قال: "يشتري منه ما لم يعلم انه ظلم فيه احدا"
2. ما رواه عبد الرحمن بن ابي عبدالله، قال: سالته عن الرجل ايشتري من العامل و هو يظلم؟ فقال: "يشتري منه"
و قد وردت روايات في اخذ جوائز الظالم.
الي غير ذلک من الروايات المورثة لليقين بعدم وجوب الموافقة القطعية.
تنبيه
اذا کان المردد في الشبهة غير المحصورة افرادا کثيرة نسبة مجموعها الي المشتبهات کنسبة الشيء الي الامور المحصورة، کما اذا علم بوجود مائة شاة محرمة في ضمن الف شاة، فان نسبة المائة الي الالف نسبة الواحد الي العشرة، و هذا ما يسمي بشبهة الکثير في الکثير، فالعلم الاجمالي هنا منجز، و العقلاء يتعاملون معه معاملة الشبهة المحصورة، و لا يعد احتمال الحرمة في کل طرف احتمالا ضئيلا.

المقام الثاني: الشبهة الوجوبية
ان الشبهة الوجوبية في المکلف به تنقسم الي قسمين، تارة يکون الشک مرددا بين المتباينين کتردد الامربين وجوب الظهر او الجمعة، واخري بين الاقل و الاکثر کتردد الواجب بين الصلاة مع السورة او بدونها، و بذلک يقع الکلام في موضعين.
الموضع الاول: الشبهة الوجوبية الدائرة بين متاينين
اذا دار الواجب بين امرين متباينين، فمنشا الشک اما فقدان النص او اجماله، او تعارض النصين، او الشبهة الموضوعية، فهناک مسائل أربع: و اليک البحث فيها بوجه موجز:
1. اذا تردد الواجب بغيره لاجل فقدان النص، کتردد بين الظهر و الجمعة.
2. اذا تردد الواجب بغيره لاجل اجمال النص بان يتعلق التکليف الوجوبي بامر مجمل، کقوله تعالي: (حافظوا علي الصلوات و الصلاة الوسطي) (البقره/238) حيث ان الصلاة الوسطي مرددة بين عدة منها.
3. اذا تردد الواجب بغيره لاجل تعارض النصين و تکافوهما، کما اذا دار الامر بين القصر و الاتمام.
4. اذا تردد الواجب بغيره من جهة اشتباه الموضوع، کما في صورة اشتباه الفائتة بين العصر و المغرب.
ان الخلاف في هذه المسائل کالخلاف في الشبهة التحريمية، و المختار هو المختار طابق النعل بالنعل، فبجيب الاحتياط في الاول و الثانية و الرابعة، و اما الثالثة، فالمشهور فيها التخيير، لاخبار التخيير السليمة عن المعارض.

الموضع الثاني: الشبهة الحکمية، الوجوبية الدائرة بين الاقل و الاکثر
ان الاقل و الاکثر ينقسمان الي استقلاليين و ارتباطيين و الفرق بينهما، هو ان وجوب الاقل و امتثاله في الاستقلالي يغاير وجوب الاکثر- علي فرض وجوبه- وامتثاله، فلکل وجوب و امتثال، کالدين المردد بين الدينار والدينارين، والظاهر وجوب امتثال الاقل، و عدم لزوم امتثال الاکثر لعدم ثبوت وجوبه، بخلاف الاقل في الارتباطي فانه علي فرض وجوب الاکثر يکون واجبا بنفس وجوب الاکثر فلهما وجوب واحد و امتثال فارد، و لذلک اختلفوا في جواز الاقتصار بالاقل، او لزوم الاتيان بالاکثر.
ونقتصر بالبحث هنا علي الاقل و الاکثر الارتباطيين، و بحث عنه ضمن مسائل أربع:
المسالة الاولي: دوران الامر بين الاقل و الاکثر لاجل فقدان النص
اذا شککنا في جزئية السورة، او جلسة الاستراحتة، او شرطية اباحة ثوب المصلي فيکون الواجب مرددا بين الاقل کالصلاة بلا سورة و بلا جلسة الاستراحتة...، او الاکثر کالصلاة مع السورة و مع جلسة الاستراحة، فهل الاتيان بالاکثر مجري للبراءة، او مجري للاحتياط؟ و المختار هو البراءة.
و اعلم انه يعتمد في تقرير البراءة العقلية علي مسالة قبح العقاب بلا بيان، فيقال في المقام ان الجزء المشکوک لم يرد في وجوبه بيان، فلو ترکه العبد و کان واجبا في الواقع فالعقاب علي ترکه عقاب بلا بيان و هو قبيح علي الحکيم.
کما انه يعتمد في تقرير البراءة الشرعية لاجل رفع الوجوب الشرعي، علي حديث الرفع، فيقال ان وجوب الاکثر بعد "مما لا يعلمون" و کل ما کان کذلک فهو مرفوع.

استدلال القائلين بالاحتياط
ان الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينة، فذمه المکلف مشغولة بالواجب المردد بين الاقل و الاکثر، و لا يحصل اليقين بالبراءة الا بالاتيان بالاکثر نظير ما اذا امر الصلاة الفائتة بين احدي الصلاتين: المغرب او العشاء، فيجيب الاتيان بالاقل و الاکثر کما يجب الاتيان بکلتا الصلاتين.
يلاحظ عليه: وجود الفرق بين المشبه ( دوران الواجب بين الاقل و الاکثر) و المشبهة به ( دوران الواجب بين المتباينين) فان العلم الاجمالي في الثاني باق علي حاله حيث ان الواجب مردد بين شيئين مختلفين غير متداخلين کصلاتي المغرب و العشاء.
و هذا بخلاف المقام فان الترديد زائل بادني تامل حيث يعلم وجوب الاقل علي کل حال، بنحو لا يقبل الترديد ، و انما الشک في الوجوب الزائد اي السورة، ففي مثله يکون وجوب الاقل معلوما علي کل حال، و وجوب الزائد مشکوکا من راس، فياخذ بالمتيقن و تجري البراءة في المشکوک.
ومن ذلک يعلم ان عد الشک في الاقل والاکثر الارتباطيين من باب العلم الاجمالي انما هو بظاهر الحال و بدء الامر، و اما بالنسبة الي حقيقة الامر فوجوب الزائد داخل في الشبهة البدوية التي اتفق الاخباري والاصولي علي جريان البراءة فيها.
المسالة الثانية: دوران الامر بين الاقل و الاکثر لاجل اجمال النص
اذا دار الواجب بين الاقل و الاکثر لاجل اجمال النص، کما اذا علق الوجوب في الدليل اللفظي مردد معناه بين المرکبين يدخل اقلهما تحت الاکثر بحيث يکون اتيان الاکثر اتيانا للاقل، و لا عکس، کما اذا دل الدليل علي غسل ظاهر البدن،

فيشک في ان الجزء الفلاني کداخل الاذن من الظاهر او من الباطن، و الحکم فيه کالحکم في السابق، و نزيد هنا بيانا:
ان الملاک في جريان البراءة الشرعية هو رفع الکلفة المشکوکة فکل شيء فيه کلفة زائدة وراء الکلفة الموجودة في الاقل، يقع مجري للبراءة الشرعية.
المسالة الثالثة: دوران الامر بين الاقل و الاکثر لاجل تعارض النصين
اذا تعارض نصان متکافئان في جزئية شيء، کان يدل احد الدليلين علي جزيئة السورة، و الاخر علي عدمها، و لم يکن لاحدهما مرجح، فالحکم فيه هو التخيير، لما عرفت من تضافر الروايات العديدة علي التخيير عند التعارض.

المسالة الرابعة: دوران الامر بين الاقل و الاکثرفي الشبهة الموضوعية
اذا شک في جزئية شيء للمامور به من جهة الشبهة في الموضوع الخارجي، کما اذا امر بمفهوم مبين مردد مصداقة بين الاقل و الاکثر، و هذا کما اذا امر المولي باکرام العلماء علي نحو العام المجموعي بحيث تکون للجميع اطاعة واحدة و عصيان واحد، فالشک في کون زيد عالما او بغير عالم شک في کون الواجب هو الاقل او الاکثر و منشا الشک هو خلط الامور الخارجية و بما ان عنوان المجموع، عنوان طريقي الي الواجب ففي الحقيقة يتردد الواجب بين الاقل و الاکثر فتجري البراءة.
حکم الشک في المالنعية و القاطعية
المراد من المانع ما اعتبره الشارع بما ان وجوده مخل بتاثير الاجزاة في الغرض


المطلوب کنجاسة الثوب في حال الصلاة.
و المراد من القاطع ما اعتبره الشارع بما انه قاطع للهيئة الاستمرارية کالفعل الماحي للصورة الصلاتية.
فاذا شککنا في مانعية شيء او قاطعيته، فمرجع الشک الي اعتبار امر زائد علي الواجب- وراء ما علم اعتباره، فيحصل هنا علم تفصيلي، بوجوب الاجزاء و شک بدوي في مانعية شيء او قاطعيته - فالاصل عدم اعتبارهما الي ان يعلم خلافه، فالشک فيهما کالشک فيهما کالشک في جزئية شيء في ان المرجع في الجميع هو البراءة.

و الحمدالله رب العالمين

الفصل الرابع
الاستصحاب
لايضاح الحال نذکر امورا:
الاول: تعريف الاستصحاب و هو في اللغة اخذ الشيء مصاحبا او طلب صحبته، و في الاصطلاح "ابقاء ما کان علي ما کان " مثلا اذا کان المکلف متيقنا بانه متطهر من الحدث، و لکن بعد فترة شک في حصول حدث ناقص طهارته، فيبني علي بقائها، وانه بعد متطهر، فتکون النتيجة: "ابقاء ما کان علي ما کان" و يتخلف عن الاصول الثلاثة السابقة باختلاف المجري، فان مجري الاصول الثلاثة هو الشک في الشيء من دون لحاظ الحالة السابقة، اما لعدمها لحاظها، و هذا بخلاف الاستصحاب فان مجراه هو لحاظ الحالة السابقة.
الثاني: ارکان الاستصحاب
ان الاستصحاب يتقوم بامور منها:
1. اليقين بالحالة السابقة و الشک في بقائها.
2. اجتماع اليقين و الشک في الزمان واحد عند المستصحب، اي فعلية اليقين في ظرف الشک.
3. تعدد زمان المتيقن و المشکوک.

4. سبق زمان المتيقن علي زمان المشکوک.
5. وحده متعلق اليقين و الشک.
الثالث: تطبيقات
الف. استصحاب الکرية اذا کان الماء مسبوقا بها فيترتب عليه عدم نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.
ب. استصحاب عدم الکرية اذا کان الماء مسبوقا به فيترتب عليه نجاسة الماء بالملاقاة بالنجس.
ج - . استصحاب حياة زيد فيرتب عليه حرمة قسمة امواله و بقاء علقة الزوجية بينه و بين زوجته.
الرابع: الفرق بين الاستصحاب و قاعدة اليقين
وهناک قاعدة اخري تسمي في مصطلح الاصوليين بقاعدة اليقين، و هذا کما اذا تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرا عليه الشک يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة (لا السبت) و مما ذکرنا يظهر انه تختلف عن الاستصحاب في الامرين التاليين:
أ - . عدم فعلية اليقين لزواله بالشک.
ب - . وحدة متعلقي اليقين و الشک جوهرا و زمانا.
والمعروف بين الاصحاب ان الاستصحاب حجة دون قاعدة اليقين. وان روايات الباب منطبقة علي الاول دون الثانية کما سيو افيک.

أدلة حجية الاستصحاب
اختلف الاصوليون في کيفية حجية الاستصحاب، فذهب القدماء الي انه حجة من باب الظن، واستدلوا عليه بالوجوه التالية:
1. بناء العقلاء علي العمل وفق الحالة السابقة، و لم يثبت الردع عنه من جانب الشارع.
يلاحظ عليه - مضافا الي عدم کليتها، فان العقلاء لا يعلمون في الامور الخطيرة علي وفق الاستصحاب و ان افاذ الظن-: انه يکفي في الردع ما دل من الکتاب والسنة علي النهي عن اتباع غير العلم، و قد مرت تلک الايات عند البحث عن حجية خبر الواحد.

2. ما استند اليه العضدي في شرح المختصر، فقال: ان استصحاب الحال: ان الحکم الفلاني قد کان و لم يظن عدمه، و کل ما کان کذلک فهو مظنون البقاء.
يلاحظ عليه: اولا: بمنع کلية الکبري، لمنع افادة الاستصحاب الظن في کل مورد، و ثانيا سلمنا لکن الاصل في الظنون عدم الحجية الا ان يدل دليل قاطع عليها.
3. الاستدلال بالاجماع، قال العلامة: الاستصحاب حجة لاجماع الفقهاء علي انه متي حصل حکم، ثم وقع الشک في طروء ما يزيله، وجب الحکم علي ما کان اولا، ولولا القول بان الاستصحاب حجة لکان ترجيحا لاحد طرفي الممکن من غير مرجح.
يلاحظ عليه: عدم حجية الاجماع المنقول، خصوصا اذا علم مستند المجمعين. اضف الي ذلک مخالفة عدة من الفقهاء مع الاستصحاب.
و اما المتاخرون فقد استدلوا بالاخبار، و اول من استدل بها الشيخ الجليل



الحسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدين العاملي(918-984هجري) في کتابه المعروف ب"العقد الطهماسبي" و هي عدة روايات:
1. صحيحة زرارة الاولي
روي الشيخ الطوسي باسناده، عن الحسين بن سعيد عن حماد،عن حريز، عن زرارة قال: قلت له : الرجل ينام و هو علي وضوء، اتوجب الخفقة و الخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: "يا زرارة: قد تنام العين و لا ينام القلب و الاذن،فاذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء".
قلت :فان حرک علي جنبه شيء و لم يعلم به ؟ قال: "لا، حتي يستيقن انه قد نام، حتي يجيء من ذلک امر بين، و الا فانه علي يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين ابدا بالشک، وانما تنقصه بيقين آخر". وجه الدلالة: ان المورد وان کان هو الوضوء، لکن قوله: "و لاتنقض اليقين ابدا بالشک" الي آخره ظاهر في انه قضية کلية طبقت علي مورد الوضوء، فلا فرق بين الشک في الوضوء و غيره. و ان اللام في قوله: "اليقين" لام الجنس لا العهد، ويدلک علي هذا، ان التعليل بامر ارتکازي و هو عدم نقض مطلق اليقين بالشک، لا خصوص اليقين بالوضوء.
2. صحيحة زرارة الثانية
روي الشيخ في التهذيب عن زرارة رواية مفصلة تشتمل علي اسئلة و اجوبة، و نحن ننقل مقاطع منها:
اصاب ثوبي دم رعاف، او غيره، او شيء من مني، فعلمت أثره الي ان

اصيب له الماء، فاصبت و حضرت الصلاة و نسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذکرت بعد ذلک.
قال: "تعيد الصلاة و تغسله".
قلت: فاني لم اکن رايت موضعه، و علمت انه قد اصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟
قال: "تغسله و تعيد".
قلت : فان ظننت اته قد اصابه و لم اتيقن ذلک، فنظرت فلم ار شيئا، ثم صليت فرايت فيه؟
قال: "تغسله و لا تعيد الصلاة"، قلت: لم ذلک؟
قال: "لانک کنت علي يقين من طهارتک ثم شککت ، فليس ينبغي لک ان ننقض اليقين بالشک ابدا".
وجه الاستدلال: يرکز الراوي في سواله الثالث علي انه ظن - قبل الدخول في الصلاة- باصابة الدم بثوبه ولکن لم يتيقن ذلک فنظر فلم ير شيئا فصلي فلما فرغ عنها راي الدم- الذي ظن به قبل الصلاة- فاجاب الامامعليه السلام : بانه يغسل ثوبه للصلوات الاخري ولکن لايعيدما صلي. فسال الراوي عن سببه مع انه صلي في الثوب النجس، کالصورتين الاوليين فاجابعليه السلام : بوجود الفرق، و هو علمه السابق بنجاسة ثوبه في الصورتين فدخل في الصلاة بلا مسوغ شرعي، وشکه فيها بعد الاذعان بطهارته في الصورة الثالثة فدخل فيها بمجوز شرعي و هو عدم نقض اليقين بالطهارة، بالشک في النجاسة و منه يعلم ان ظرف الاستصحاب هو قبيل الدخول فيها.

ثم ان للاستصحاب دورا فقط في احرازالصغري: اعني: طهارة الثوب، و يترتب عليه امر الشارع بجواز الصلاة فيه، ومن المعلوم ان امتثال الامر الشرعي واقعيا کان او ظاهريا مسقط للتکليف، کما مر في مبحث الاجزاء.
3. حديث الاربعمائة
روي ابو بصير، و محمد بن مسلم، عن ابي عبدالله، عن آبائه، عن امير المومنينعليه السلام ، انه قال: "من کان علي يقين ثم شک فليمض علي يقينه، فان الشک لا ينقض اليقين".
والرواياة صالحة للاستدلال بها علي حجية قاعدة اليقين اذا کان متعلق اليقين و الشک واحدا ذاتا و زمانا، بان يکون مفادها، من کان علي يقين (من عدالة زيد يوم الجمعة) ثم شک (في عدالته في نفس ذلک اليوم و بالتي شک في صحة الطلاق الذي طلق عنده) فليمض علي يقينه .
کما هي صالحة للاستدلال بها علي حجية الاستصحاب اذا کان متعلق الشک غير المتعلق اليقين زمانا فف المثال: اذا ايقن بعدالته يوم الجمعة و شک في بقائها يوم السبت فليمحض علي يقينه (مثلا ليطلق عنده).
لکنهافي الاستصحاب اظهر لوجهين:
1. ان الصحاح السابقة تشکل قرينة منفصلة علي تفسير هذه الرواية فتحمل الي ما حملت عليه الروايات السابقة.
2. ان التعليل في الحديث تعليل بامر ارتکازي و هو موجود في الاستصحاب دون قاعدة اليقين لفعلية اليقين في الاول دون الآخر.
#المراد من حديث الاربعمائة،الحديث الذي علم فيه امير المومنين عليه السلام : اصحابه الاربعمائة کلمة تصلح للمسلم في دينه و دنياه، رواه الصدوق بسند صحيح ، عن ابي بصير، و محمد بن مسلم، في کتاب الخصال في ابواب المائة و مافوقها. لاحظ ص 619.

في تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الاول: في فعلية الشک
يشترط في الاستصحاب فعلية الشک فلا يفيد الشک التقديري، فلو تيقن الحدث من دون ان يشک ثم غفل و صلي ثم التفت بعدها فشک في طهارته من حدثه السابق فلا يجري الاستصحاب، لان اليقين بالحدث و ان کان موجودا قبل الصلاة لکنه لم يشک لغفلته، ولاجل عدم جريانه يحکم عليه بصحة الصلاة اخذا بقاعدة الفراغ، لاحتمال انه توضا قبل الصلاة، و هذا المقدار من الاحتمال کاف لجريان قاعدة الفراغ، و لکن يجب عليه التوضؤ بالنسبة الي سائر الصلوات، لان قاعدةالفراغ لا تثبت الا صحة الصلاة السابقة، و اما الصلوات الاتية فهي رهن احراز الطهارة.
وهذا بخلاف ما اذا کان علي يقين من الحدث ثم شک في وضوئه و مع ذلک غفل و صلي و التفت بعدها فالصلاة محکومة بالبطلان لتمامية ارکان الاستصحاب و ان احتمل انه توضا بعد الغفلة.

التنبيه الثانية في استصحاب الکلي
المراد من الاستصحاب الکلي هو الاستصحاب الجامع بين الفردين، ک الاستصحاب الانسان المشترک بين زيد و عمرو، و کاستصحاب الطلب الجامع بين الوجوب و الندب، و له اقسام ثلاثة:
القسم الاول من استصحاب الکلي
اذا علم بتحقق الکلي في ضمن فرد ثم شک في بقائه و ارتفاعه، فلامحالة

يشک في بقاء الکلي و ارتفاعه، فاذا علم بوجود زيد في الدار فقد علم بوجود الانسان فيها، فاذا شک في بقائه فيها يجري هناک استصحابان:
أ - . استصحاب بقاء الفرد- اعني: زيدا-.
ب - . استصحاب بقاء الکلي- اعني: الانسان-.
و هکذا اذا صار محدثا بالحدث الاکبر- اعني: الجنابة- و شک في ارتفاعها بالرافع فيجوز له استصحاب الجنابة، فيترتب عليه جميع آثار الجنابة کحرمة المکث في المساجد وعبور المسجدين الشرفين.
کما يجوز استصحاب الکلي، اي اصل الحدث الجامع بين الجنابة و سائر الاحداث، فيترتب عليه اثر نفس الحدث الجامع کحرمة مس کتابة القرآن.
القسم الثاني من استصحاب الکلي
اذا علم اجمالا ان في الدار حيوانا مرددا بين قصير العمر کالبق، و طويله کالفيل، فقد علم تفصيلا بوجود حيوان فيها- و ان کانت المشخصات مجهولة ثم مضي زمان يقطع بانتفاء الفرد القصير فيشک في بقاء الحيوان في الدار- فلايصح استصحاب الفرد مثل البق او الفيل، لعدم الحالة المتيقنة للفرد، لافتراض کون المشخصات مجهولة، و لکن يصح استصحاب الکلي.
و مثاله من الامور الشرعية ما اذا کان متطهرا و خرج بلل مردد بين البول و المني، فعندئذ حصل له علم تفصيلي بالحدث الکلي. ثم اذا توضا بعده فلو کان البلل بولا ارتفع الحدث الاصغر قطعا، و لو کان منيا فهو باق، و عندئذ لايقطع بارتفاع الحدث الجامع لاحتمال کون الحادث هو المني.
فلا يجوز استصحاب اي فرد من افراد الحدث لعدم العلم بالحالة السابقة، لکن يصح استصحاب الجامع اي مطلق الحدث الجامع بين اصغر و الاکبر.

القسم الثالث من استصحاب الکلي
اذا تحقق الکلي(الانسان) في الدار في ضمن فرد کزيد، ثم علم بخروجه من الدار قطعا، ولکن يحتمل مصاحبة عمرو معه عندما کان زيد في الدار، او دخوله فيها مقارنا مع خروجه.
ففي هذا المقام لايجري استصحاب الفرد اصلا، لان الفرد الاول مقطوع الارتفاع و الفرد الثاني مشکوک الحدوث من راس، ولکن يجري استصحاب الکلي اي وجود الانسان في الدار الذي هو الجامع بين الفردين.
مثاله في الاحکام الشرعية ما اذا علمنا بکون الشخص کثير الشک و علمنا ايضا ارتفاع کثرة شکه اجمالا، ولکن احتملنا ارتفاعها من راس او انقلابها الي مرتبة ضعيفة، فلايجوز استصحاب المرتبة الشديدة لانها قطعية الارتفاع، ولا المرتبة الضعيفة لانها مشکوکةالحدوث، لکن يمکن استصحاب الجامع بين المرتبتين و هو کونه کثيرالشک غير مقيد بالشدة و الضعف .

التنبيه الثالث: عدم حجية الاصل المثبت
يشترط في الاستصحاب ان يکون المستصحب اما حکما شرعيا کاستصحاب احد الاحکام الشرعية- کلية او جزئية- او موضوعا لحکم شرعي کاستصحاب حياة زيد، فانها موضوعة لاحکام کثيرة، مثل بقاء علقة الزوجية و حرمة تقسيم امواله، الي غير ذلک من الآثار الشرعية.
فلو افترضنا ان زيدا غاب و له من العمر اثنا عشر عاما، فشککنا في حياته بعد مضي ثلاثة اعوام من غيبته، فلا يصح استصحاب حياته لغاية اثبات اثره العقلي- بلوغه- حتي يترتب عليه آثاره الشرعية من وجوب الانفاق من ماله علي والديه فالمراد من الاصل المثبت هو اجراء الاستصحاب لاثبات الاثر العقلي او العادي للمستصحب.

ذهب المحققون الي عدم صحته لان الآثار العقلية و ان کانت اثرا لنفس المتيقن، ولکنها ليست آثارا شرعية، بل آثار تکوينيه غير خاضعة للجعل و الاعتبار، و الآثار الشرعية المترتبة علي تلک الامور العادية و العقلية و ان کانت خاضعة للجعل لکنها ليست آثارا للمتيقن(الحياة) الذي امرنا الشارع بابقائه و تنزيل مشکوکه منزلة المتيقن.
و اليک مثالا الآخر:
مثلا اذا تعبدنا الشارع بابقاء شهر رمضان، او عدم روية هلال شوال في يوم الشک فاذا ضم هذا التعبد الي العلم القطعي بمضي تسعة و عشرين يوما من اول الشهر قبل هذا اليوم، يلازمه الاثر العادي و هو کون اليوم التالي هو عيد الفطر، فهل يترتب علي ذلک الاثر العادي - الملزم للاستصحاب- الاثر الشرعي من صحة صلاة الفطر و لزوم اخراج الفطرة بعد الهلال و نحوهما؟
فالتحقيق: انه لا يترتب علي الاستصحاب، الاثر العادي حتي يترتب عليه الاثر الشرعي، لان الذي تعبدنا الشارع بابقائه هو بقاء شهر رمضان او عدم روية هلال شوال، فلصيانة تعبد الشارع عن اللغوية يترتب کل اثر شرعي علي هذين المستصحبين، لا اثر العادي، لانه غيرخاضع للجعل و الاعتبار، فان الامور التکوينية تدورمدار الواقع.
وام الآثار الشرعية المرتبة علي ذلک الاثر العادي، فهي و ان کانت خاضعة للجعل و الاعتبار، لکنها ليست اثرا مترتبا علي ما تعبدنا الشارع بابقائه و هو کون اليوم شهر الرمضان او عدم کونه کن شوال.
نعم استثني بعض المحققين من الاصل المثبت موارد تطلب من الدراسات العليا.

التنبيه الرابع: تقدم الاصل السببي علي المسببي
اذا کان في المقام آصلان متعارضان، غير ان الشک في احدهما مسبب عن الشک في الآخر، مثلا اذا کان ماء قليل مستصحب الطهارة، و ثوب متنجس قطعا، فغسل الثوب بهذا الماء فهنا يجري بعد الغسل الثوب استصحابان:
أ - . استصحاب طهارة الماء الذي به غسل الثوب النجس، و مقتضاه طهارة الثوب المغسول به
ب - . استصحاب نجاسة الثوب و بقائها حتي بعد الغسل.
و عندئذ يقدم الاستصحاب الاول علي الاستصحاب الثاني، لان الشک في بقاء النجاسة في الثوب - بعد الغسل- ناشي عن الشک في الطهارة الماء الذي غسل به، فاذا تعبدنا الشارع ببقاء طهارة الماء ظاهرا يکون معناه ترتيب ما للماء الطاهر الواقعي من الآثار علي مستصحب الطهارة، و من جملة آثاره طهارة الثوب المغسول به، فالتعبد ببقاء الاصل السببي يرفع الشک، في جانب الاصل المسببي بمعني ان النجاسة هناک مرتفعة غير باقية فيکون الاصل السببي مقدما علي الاصل المسببي.
و يمکن ان الاصل السببي - استصحاب طهارة الماء- ينقح موضوع الدليل الاجتهادي، فيکون الدليل الاجتهادي مقدما علي الاصل المسببي، لان استصحاب طهارة الماء يثبت موضوعا، و هو ان هذا الماء طاهر، هذا من جانب.
ومن جانب آخر دل الدليل الاجتهادي ان کل نجس غسل بماء طاهر فهو طاهر، فبضم الصغري الي الکبري لا يبقي شک في طهارة الثوب و ارتفاع نجاسته.

التنبيه الخامس: تقدم الاستصحاب علي سائر الاصول
يقدم الاستصحاب علي سائر الاصول، لان التعبد ببقاء اليقين السابق و جعله حجه في الآن اللاحق يوجب ارتفاع موضوعات الاصول، او حصول غاياتها، و اليک البيان:
أ - . ان موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، فاذا کان الشيء مستصحب الحرمة او الوجوب، فالامر بالتعبد بابقاء اليقين السابق بيان من الشارع، فلا يبقي موضوع للبراءة العقلية.
ب - . کما ان موضوع البراءة الشرعية هو "مالايعلمون" والمراد من العلم هو الحجة الشرعية، و الاستصحاب کما قررناه حجة شرعية علي بقاء الوجوب و الحرمة في الازمنة اللاحقة، فيرتفع موضوع البراءة الشرعية.
ج. ان موضوع التخيير هو تساوي الطرفين من حيث الاحتمال، و الاستصحاب بحکم الشرع هادم لذلک التساوي.
د. ان موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب في الفعل او الترک، و الاستصحاب بما انه حجة مومنة، فالاستصحاب بالنسبة الي هذه الاصول رافع لموضوعها. وان شئت فسمه واردا عليها.
و ربما يکون الاستصحاب موجبا لحصول غاية الاصل کما هوالحال في اصالتي الطهارة و الحلية، فان الغاية في القولهعليه السلام : "کل شيء طاهر حتي تعلم انه قذر" و في قوله عليه السلام : "کل شيء حلال حتي تعلم انه حرام" وان کان هو العلم، لکن المراد منه هو الحجة، و بما ان الاستصحاب حجة، فمع جريانه تحصل الغاية، فلا يبقي للقاعدة مجال.
ثم الکلام في الاول العلمية،
و يليه البحث في تعارض الادلة الشرعية ان شاء الله
والحمدلله رب العالمين

المقصد الثامن
في تعارض الادلة الشرعية
وفيه فصلان:
الفصل الاول: في التعارض غير المستقر
الفصل الثاني: في التعارض المستقر
خاتمة المطاف: في التعارض علي نحو العموم والخصوص من وجه.
في تعارض الادلة الشرعية
يعد البحث عن تعارض الادلة الشرعية، و کيفية علاجها، من اهم المسائل الاصولية، و ذلک لانه قلما يتفق في باب ان لا توجد فيه حجتان متعارضتان، علي نحو لا مناص للمستنبط من علاجهما بالقواعد المذکورة في باب تعارض الادلة ولاجل تلک الاهمية افردوا له مقصدا.
ان التعارض من العرض و هو اللغة بمعني الاراءة قال سبحانه: (وعلم آدم الاسماء کلها ثم عرضهم علي الملائکة) (البقرة/31).
و اما اصطلاحا فقد عرف بتنافي مدلولي الدليلين علي وجه التناقض کما اذا قال: يحرم العصير العنبي قبل التثليث، و قال ايضا: لايحرم، او التضاد کما اذا قال: تستحب صلاة الضحي و قال ايضا "تحرم".
ثم ان التعارض بين الدليلين تارة يکون امرا زايلا بالتامل و اللازم فيه هو الجمع بين الدليلين، و اخري يکون باقيا غير زائل فالمرجع فيه، هو الترجيح اولا ثم التخيير ثانيا: فصار ذلک سببا لعقد فصلين يتکلفان لبيان حکم القسمين فنقول:

الفصل الاول
في الجمع بين الدليلين
او
التعارض غير المستقر
اذا کان التعارض بين الخبرين تعارضا غير مستقر، يزول بالتامل بحيث لا يعد التکلم بهذا النحو علي خلاف الاساليب المعروفة بين المقننين و علماء الحقوق،بل کان دارجا بينهم، فيقدم فيه الجمع علي التخيير او الترجيح او التساقط و هذا هو المراد من القول الاصوليين: «الجمع مهما امکن اولي من الطرح» و مقصودهم هو الجمع المطلوب عند اهل الحقوق و القانون بحيث يعد احد الدليلين قرينة علي التصرف في الآخر، و هذا ما يعبر عنه بالجمع العرفي، او الجمع مع الشاهد في مقابل الجمع التبرعي الذي يجمع بين الدليلين بلا شاهد و قرينة، ولاجل ذلک يکون الجمع الاول مقبولا والآخر مرفوضا.
و قد بذل الاصوليون جهودهم في اعطاء ضوابط الجمع المقبول وحصروها في العناوين التالية:
1. التخصص، 2.الورود، 3. الحکومة، 4. التخصيص، 5. تقديم الاظهر علي الظاهر.
و اليک تعريف تلک العناوين:
1. التخصص: هو خروج موضوع احد الدليلن عن موضوع الدليل الآخر

حقيقة و تکوينا، کقولنا: "الخمر حرام" و" الخل حلال" فالمحمولان و ان کانا متنافيين، ولکن التنافي بينهما بدوي يزول بالنظر الي تغاير الموضوعين.
2.الورود: هو رفع احد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقة، لکن بعناية من الشارع بحيث لولاها لما کان له هذا الشان کتقدم الامارة علي الاصول العلمية.
توضيحة: ان لکل من الاصول العلمية موضوعا خاصا.
مثلا موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، و موضوع الاشتغال هو احتمال العقاب، و موضوع التخيير هو عدم المرجح، فاذا قام الدليل القطعي علي حجية الامارة ارتفع بذلک موضوع الاصل، فتکون الامارة بيانا لمورد الشک ( في الاصل البراءة)، ورافعا لاحتمال العقاب (في اصالة الاشتغال)، و مرحجا لاحد الطرفين علي الآخر (في اصالة التخيير). کل ذلک بفضل جعل الشارع الحجية للامارة. و هذا هو المراد من قولنا: "لکن بعناية الشارع" اذ لولاها لکانت الامارة في عرض الاصول لعدم افادتها العلم کالاصول، لکن لما افيضت عليها الحجية من جانب الشارع، صارت تهدد کيان الاصول لکونها بيانا من الشارع، ومومنا للعقاب و....
وبذلک يظهر ورود الامارة علي اصالتي الطهارة و الحلية، مغياة بعدم العلم، والمراد منه هو الحجة الشرعية، فالامارة بما انها حجةشرعية، دالة علي حصول الغاية في قولهعليه السلام : "کل شيء طاهر حتي تعلم انه قذر" او قوله عليه السلام : "کل شيء حلال حتي تعلم انه حرام".
3. الحکومة: ان يکون احد الدليلين ناظرا الي الدليل الآخر و مفسراله، فيقدم علي الآخر بحکم ان له تلک الخصوصية و يسمي الناظر بالحاکم، والمنظور اليه بالمحکوم، ويتلخص النظر في الاقسام التالية:

أ. التصرف في العقد الوضع بتوسيعه، قال سبحانه: (يا ايها الذين آمنوا اذا قمتم الي الصلاة فاغسلوا وجوهکم وايديکم الي المرافق) (المائدة/6) فالمتبادر من الصلاة هي الاعمال المعهودة، فاذا ضم اليه قولهعليه السلام : «الطوائف بالبيت صلاة» يکون حاکما علي الآية بتوسيع موضوعها ببيان ان الطواف علي البيت من مصاديق الصلاة فيشترط فيه ما يشترط في الصلاة.
و مثله قوله صلي الله عليه و آله وسلّم : « لا صلاة الا بطهور» الظاهرة في شرطية الطهارة المائية، فکانه قال:« الطهور شرط للصلاة « فاذا قال : التراب احد الطهورين، فقد وسع الموضوع (الطهور) الي الطهارة الترابية ايضا، وهذا النوع من التصرف في عقد الوضع لايتم الا ادعاء، کادعاء ان الطواف او التيمم صلاة او طهور.
ب. التصرف في عقد الوضع بتضييقه، و يتحقق ذلک بنفي الموضوع لغاية نفي حکمه کما اذا قال: « لا شک لکثير الشک» ، او قال: « لا شک للامام مع حفظ الماموم»، او بالعکس، وذلک بعد العلم بان للشاک احکاما معينة في الشريعة فهي حاکمة علي احکام الشاک، متصرفة في موضوعها بادعاء عدم وجود الشک في تلک الموارد الثلاثة، والغاية هي رفع الحکم برفع الموضوع ادعاء.
مع ان هذه الامثله اشبه بالتخصيص، ولکن الذي يميزها عن التخصيص هو ان لسانها لسان النظارة الي الدليل الآخر.
ح - . التصرف في عقد الحمل او متعلقه بتوسيعه، فاذا قال: ثوب المصلي يلزم ان يکون طاهرا و قال: "کل شيء طاهر حتي تعلم انه قذر" فقد وسع متعلق الحکم الي الطهارة الثابتة حتي بالاصل.
د - . التصرف في عقد الحمل بتضييقه، و هذا کقوله سبحانه: (وما جعل عليکم في الدين من حرج) (الحج/78) فانها بحکم نظرها الي الاحکام الشرعية المرتبة علي العناوين الاولية تضيق محمولاتها و يخصصها بغير صورة الحرج، و مثله

: " لاضرر و لاضرار" بالنسبة الي سائر الاحکام فوجوب الوضوء محدد بعدم الحرج و الضرر.
و الحاصل: ان مقوم الحکومة اتخاذ الدليل لنفسه موقف الشرح والتبيين، فتکون النتيجة اما تصرفا في عقد الوضع، او الحمل اما بالتوسيع او بالتضييق. ولکن التعارض ورفعه بالحکومة مختص بصورة التضييق لا التوسيع وليس فيها اي تعارض حتي تعالج بالحکومة بخلاف صورة التضييق فالتعارض محقق لکن يقدم الحاکم علي المحکوم في عرف اهل التقنين فلاحظ.
4. التخصيص: عبارة عن اخراج بعض افراد العام عن الحکم المحمول عليه مع التحفظ علي الموضوع کما اذا قال: اکرم العلماء، ثم قال: لا تکرم العالم الفاسد، فهو يشارک الحکومة في بعض اقسامه (القسم الرابع) لکنه يفارقه بان لسان التخصيص هو رفع الحکم عن بعض افراد الموضوع ابتداء من دون ان يکون لسانه، لسان النظارة، بخلاف الحکومة فان لسانها لسان النظر اما الي المحمول او الي الموضوع، ولذلک ربما يقال بانه لو لم يرد من الشارع حکم في المحکوم لو يکن للدليل الحاکم مجال.
3. تقديم الاظهر علي الظاهر، اذا عد احد الدليلين قرينة علي التصرف في الآخر يقدم ما يصلح للقرينية علي الآخر و ان لم يدخل تحت العناوين السابقة، وهذا ما يسمي بتقديم الاظهر علي الظاهر و لاجل التعرف علي الاظهر و الظاهر نذکر امثلة:
أ: دوران الامر بين تخصيص العام و تقييد المطلق
اذا دار بين تخصيص العام وتقييد المطلق، کما اذا قال المولي: اکرم العلماء، ثم قال: لاتکرم الفاسق، فدار امر العالم الفاسق بين دخوله تحت الحکم

الاول او الثاني، فقد اختار الشيخ الاعظم الانصاري تقديم العام علي المطلق، و لزوم التصريف في الثاني بتقييد المطلق به، فتکون النتيجة وجوب اکرام العالم الفاسق، و ماهذا الا لان دلالة العام علي الشمول اظهر من دلالة المطلق عليه.
ب: اذا کان لاحد الدليلين قدر متيقن
اذا کان لاحد الدليلين قدر متيقن، مع تساويهما في الظهور اللفظي و کونهما بصيغة العموم کما اذا قال: اکرم العلماء ثم قال:لا تکرم الفساق، فبين الدليلين عموم و خصوص من وجه، فيتعارضان في مجمع العنوانين: اعني: العالم الفاسق، فيجيب اکرامه علي الاول ويحرم علي الثاني ولکن علمنا من حال المتکلم انه يبغض العالم الفاسق،فهو قرينه علي تقديم عموم النهي علي عموم الامر، فيکون مجمع العنوانين (العالم الفاسق )محرم الاکرام.
ج: دوران الامر بين التقييدوالحمل علي الاستحباب
اذا قال الشارع اذا افطرت فا عتق رقبة، ثم ورد بعد مدة اذا افطرت فاعتق رقبة مومنة، فيدور الامر بين حمل المطلق علي المقيد،او حمل الامرالمتعلق با لمقيد علي الا ستحباب،فربما يقدم الاول علي الثاني لشيوع التقييد، وربما يرجح العکس لشيوع استعمال الاوامرعلي لسان الشارع في الاستحباب. وقد مر تفصيله في المقصد الخامس عند البحث في المطلق والمقيد.
ويدل علي هذا النوع من الجمع طائفة من الروايات منها:
ما روي داود بن فرقد، قال: سمعت اباعبداللهعليه السلام : يقول: "انتم افقه الناس اذا عرفتم معاني کلامنا، ان الکلمة لتنصرف علي وجوه لو شاء انسان لصرف کلامه حيث يشاء".


وهذا الحديث يحث علي التامل والتدبر في الاحاديث المروية، حتي لا يتسرع السامع باتهامها بالتعارض بمجرد السماع، دون التدبر في اطرافها.
فتلخص ان التنافي غير المستقر يرتفع باحد الامور الخمسة التي اشرنا اليها، بقي الکلام في التنافي المستقر و هو الذي نبحث عنه في الفصل التالي.
الفصل الثاني
التعارض المستقر
او اعمال الترجيح والتخيير
اذا کان هناک بين الدليلين تناف وتدافع في المدلول علي وجه لايمکن الجمع بينهما جمعا عرفيا مقبولا عند اهل التقنين، فيقع البحث في امور:
الاول: ماهي القاعدة الاولية عند التعارض؟
لا شک ان الاخبار حجة من باب الطريقية بمعني انها الموصلة الي الواقع في کثير من الاحيان، هذا من جانب، ومن جانب آخر ان دليل حجية قول الثقة منحصرة في السيرة العقلائية عند المحققين، وبما ان السرة دليل لبي يوخذ بالقدر المتيقن منه لعدم وجود لسان لفظي لها حتي يوخذ باطلاقه، والقدر المتيقن من السيرة في مورد حجية قول الثقة هي صورة عدم التعارض، فتکون القاعدة الاولية هي سقوط الخبرين المتعارضين عن الحجية. لما مضي من الشک في الحجية يساوق القطع بعدمها.

الثاني: ماهي القاعدة الثانوية عند التعارض؟
قد وقفت علي ان مقتضي القاعدة الاولية في الخبرين المتعارضين هو التساقط، فلو ثبت شيء علي خلاف تلک القاعدة ناخذ به، والا فهي محکمة. فنقول: ان الخبرين المتعارضين علي صورتين:
أ: الخبران المتکافئان اللذان لا مزية لاحدهما توجب ترجيحه علي الآخر.
ب: الخبران المتعارضان اللذان في احدهما مزية توجب ترجيحه علي الآخر. واليک الکلام في کلا القسمين:
الصورة الاولي: الخبران متعارضان متکافئان
اذا ورد خبران متعارضان متکافئان من دون مزية لاحدهما علي الآخرفقد استفاضت الروايات علي التخيير بينهما، فمنها:
1. ما روي الطبرسي في «الاحتجاج» عن الحسن بن الجهم قال: قلت له تجيئنا الاحاديث عنکم مختلفة، فقال:«ماجاءک عنا فقس علي کتاب الله عزوجل و احاديثنا، فان کان يشبههما فهو منا، وان لم يکن يشبههما فليس منا»، قلت: يجيئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايهما الحق؟ قال: «فاذا لم تعلم فموسع عليک بايهما اخذت». 2. ما رواه الشيخ في «التهذيب»، عن علي بن مهزيار قال: قرات في کتاب

لعبدالله بن محمد، الي ابي الحسن عليه السلام : اختلف اصحابنا في رواياتهم عن ابي عبدالله عليه السلام في رکعتي الفجر في السفر،فروي بعضهم: صلها في المحمل، وروي بعضهم: لاتصلها الا علي الارض، فقال: عليه السلام : «موسع عليک باية عملت».
والرواية بقرينة قوله: «موسع عليک باية عملت» ناظرة لي الاخبار المتعارضة، نعم موردها هي الامور المستحبة، والتخيير في المستحبات لايکون دليلا علي التخيير في الواجبات، لان للاولي مراتب مختلفة في الفضيلة، فيصح التخيير بين درجاتها، وهذا بخلاف الواجبات، فان احد الطرفين تعلق به الامر دون الآخر.
هل التخيير بدوي او استمراري؟
اذا ورد خبران متعارضان متکافئان، فهل التخيير بينهما بدوي او استمراري بمعني انه له اختيار غير ما اختاره في الواقعة الاولي؟ والحق انه بدوي، و قد سبق بيانه في مبحث الاشتغال، و ذکرنا فيه ان المخالفة القطعية العملية للعلم الاجمالي قبيح و حرام، من غير فرق بين ان تکون المخالفة دفعية او تدريجية، فاذا اخذ باحد الخبرين في الواقعة، والخبر الآخر في الواقعةاخري، فقد علم بالمخالفة العملية اما بعمله هذا او بما سبق.
ماهو مرجع الروايات الآمرة بالتوقف؟
هناک روايات تامر بالتوقف والصبر الي لقاء الامام، او من يخبر بحقيقة الحال من بطانة علومهم عليه السلام ومعها کيف التکليف هو التخيير بين الخبرين المختلفين؟


روي کليني، عن سماعة، عن ابي عبدالله عليه السلام : قال: سالته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه في امر کلاهما يروية، احدهما يامر باخذه، والآخر ينهاه عنه، کيف يصنع؟ قال: «يرجئه حتي يلقي من يخبره فهو في سعة حتي يلقاه».
وفي مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة حينما انتهي السائل الي مساواة الخبرين في المرجحات قال: «اذا کان ذلک فارجئه حتي تلقي امامک، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلکات».
والاول يامر بالتوقف منذ بدء الامر، والآخر يامر به بعد مساواتهما في المرجحات، وعلي کل تقدير ينفيان التخيير.
والجواب: ان هذا القسم من الروايات محمول علي صورة التمکن من لقاء الامام، او من لقاء بطانة علومهم، ويشهد لهذا الجمع نفس الحديثين، ففي الاول: «يرجئه حتي يلقي من يخبره» اي يخبره بحقيقة الحال وما هو الصحيح من الخبرين، وفي الثاني: « فارجئه حتي تلقي امامک»ومن لاحظ الروايات الآمرة بالتوقف يلمس ذلک، فان من الرواة من کان يتمکن من لقاء الامام والسماع منه، ومنهم من لم يکن متمکنا من لقائه عليه السلام : الا ببذل مون، وقطع مسافة بعيدة، فالامر بالتوقف راجع الي المتمکن، والامر بالتخيير الي الثاني.
الصورة الثانية: الخبران المتعارضان غير المتکافئين
اذا کان هناک خبران، او اخبار متعارضة، و يکون لاحدهما ترجيح علي الآخر؛ فيقع الکلام في الامور الثلاثة:

1. التعرف علي هذه المرجحات.
2. هل الاخذ بذي المزية واجب او راجح؟
3. هل يقتصر علي المنصوص من المرجحات او يتعدي غيره؟
ولنتناول البحث في کل واحد منها.
الامر الاول: في بيان المرحجات الخبرية
نستعرض في هذا الامر المرحجات الخبرية - عندنا- او ما قيل انها من المرجحات الخبرية و هي الامور:
أ - . الترجيح بصفات الراوي
قد ورد الترجيح بصفات الراوي، مثل الاعدلية و الافقهية و الاصدقية والاورعية، في غير واحد من الروايات التي نذکر بعضها.
روي الکليني بسند صحيح، عن عمر بن حنظلة قال: سالت اباعبدالله عليه السلام عن الرجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين، او ميراث، فتحاکما الي السلطان، والي القضاة ايحل ذلک؟ قال: «من تحاکم اليهم في حق او باطل فانما تحاکم الي طاغوت، وما يحکم له فانما ياخذ سحتا، و ان کان حقا ثابتا له، لانه اخذه بحکم الطاغوت، وما امرالله ان يکفر به، قال الله تعالي: (يريدون ان يتحاکموا الي الطاغوت و قد امروا ان يکفروا به).
قلت: فکيف يصنعان؟ قال: «ينظران من کان منکم ممن قد روي حديثنا

و نظر في حلالنا و حرامنا، وعرف احکامنا، فليرضوا به حکما، فاني قد جعلته عليکم حاکما، فاذا حکم بحکمنا فلم يقبل منه، فانما استخف بحکم الله و علينا رد، والراد علينا، راد علي الله و هو علي حد الشرک بالله».
قلت: فان کان کل رجل اختار رجلا من اصحابنا فرضيا ان يکونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حکما، وکلاهما اختلفا في حديثکم، فقال: «الحکم ما حکم به اعدلهما و افقههما و اصدقهما في الحديث و اورعهما، ولا يلتفت الي ما حکم به الآخر».
ان هذا القسم من الترجيح قد ورد في غير واحد من الروايات لکن الجميع راجع الي ترجيح حکم احد القاضيين علي حکم القاضي الآخر، ومن المحتمل جدا اختصاص الترجيح به لمورد الحکومة، حتي يرتفع النزاع الواقعةو تفصل الخصومة، ولا دليل علي التعدي منه الي غيره، وذلک لانه لما کان ايقاف الواقعة و عدم صدور الحکم، غير خال من المفسدة، امر الامام باعمال المرجحات حتي يرتفع النزاع.
نعم ورد الترجيح بصفات الراوي في تعارض الخبرين، فيما رواه ابن ابي جمهور الاحسائي، عن العلامة، مرفوعا الي زرارة، لکن الرواية فاقدة للسند، يرويها ابن ابي جمهور الاحسائي (المتوفي حوالي سنة900هجري)، عن العلامة (المتوفي عام 726هجري)، عن زرارة (المتوفي عام150 هجري)، ومثل هذا لا يصح الاحتجاج به ابدا، ولاجل ذلک، لم نعتمد عليها. وعلي ذلک ليس هنا دليل صالح لوجوب الترجيح بصفات الراوي.

ب: الترجيح بالشهرة العلمية
قد ورد الترجيح بالشهرة العملية، اي عمل جل الاصحاب باحدي الروايتين، دون الرواية الاخري، في المقبولة السابقة، فقد طرح عمربن حنظلة مساواة الروايين في الصفات قائلا:
« فقلت: انهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما علي الآخر، قال: فقال:
ينظر الي ما کان من روايتهم عنا في ذلک الذي حکما به- المجمع عليه عند اصحابک فيوخذ به من حکمنا، ويترک الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند اصحابک، فان المجمع عليه لا ريب فيه.
انما الامور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، و امر مشکل يرد علمه الي الله و الي رسوله».
يلاحظ علي الاستدلال بانه: يحتمل جدا اختصاص الترجيح بالشهرة العملية بمورد القضاء و فصل الخصومة الذي لا يصح فيه ايقاف الحکم فيرجح احد الروايين علي الآخر بملاحظة مصدره، واما لزوم الترجيح بها ايضا في تعارض الخبرين في مقام الافتاء، فغير ظا هر من الحديث، لا يثبته و لا ينفيه، الا اذا قيل بالغاء الخصوصية بين المقامين عرفا.
خ.الترجيح بموافقة الکتاب
ان الامعان في المقبولة يثبت ان صدر الحديث بصدد بيان مرجحات القضاء، لکن السائل لما وقف علي ان الامام عليه السلام يقدم راي احد القاضيين علي

الآخر بحجة ان مستند احدهما هو الخبر المجمع عليه، بدا له ان يساله عن تعارض الخبرين و مرجحاتهما مع قطع النظر عن کونهما مصدرا للقضاء وقال: فان کان الخبران عنکم مشهورين قد رواهما الثقات عنکم؟
قال: « ينظر فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنة (وخالف العامة) فيوخذ به، ويترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنة (ووافق العامة).
و يدل علي الترجيح بموافقة الکتاب والسنة غيرالواحد من الروايات:
روي عبدالرحمان بن ابي عبدالله، قال: قال الصادق عليه السلام : «اذا ورد عليکم حديثان مختلفان، فاعرضوهما علي الکتاب الله، فما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فردوه».
ثم انه ليس المراد من مخالفة الکتاب هو المخالفة بالتناقض والتباين الکلي، لان عدم حجية المباين الصريح معلوم لا يحتاج الي البيان اولا، ولا يضعه الوضاعون ثانيا، لانه يواجه من اول الامر بالنقد والرد بانه کذب موضوع علي لسان الامام.
فاذن المراد من مخالفة الکتاب هو المخالفة بمثل العموم و الخصوص، فلو کان احد الخبرين موافقا لعموم الکتاب والآخر مخالفا له بنحو التخصيص يوخذ بالاول دون الثاني، و ان کان المخالف (الخاص) حجة يخصص به الکتاب اذا لم يکن مبتلي بالمعارض.

د: الترحيح بمخالفة العامة
روي عمر بن حنظله، قال: قلت : جعلت فداک ارايت ان کان الفقيهان عرفا حکمه من الکتاب والسنة، ووجدنا احد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم باي الخبرين يوخذ؟ قال: «ما خالف العامة ففيه الرشاد».
فقلت: جعلت فداک فان وافقهما الخبران جميعا، قال: «ينظر الي ما هم اليه اميل- حکامهم وقضاتهم- فيترک و يوخذ بالآخر».
ويدل عليه ايضا ما رواه عبدالرحمن بن ابي عبدالله (البصري) قال: قال الصادق عليه السلام : « فان لم تجدوهما في کتاب الله فاعرضوهما علي اخبار العامة، فما وافق اخبارهم فذروه، وما خالف اخبارهم فخذوه».
کل ذلک يکشف عن صدور الموافق تقية دون المخالف.
وجه الافتاء بالتقية
ان ائمة اهل البيت عليه السلام کانوا يفتون بالتقية خوفا من شر السلطان اولا، و فقهاء السلطة ثانيا، والمحافظة علي نفوس شيعتهم ثالثا، وکان العامل الثالث من اکثر الدواعي الي الافتاء بها، وکفانا في ذلک ما جمعة المحدث البحراني في هذا الصدد، في مقدمة حدائقه.
ان الرواة کانوا علي علم بان الامام ربما يفتي في مکاتيبه بالتقية بشهادة ما

رواه الصدوق باسناده عن يحيي بن ابي عمران انه قال: کتبت الي ابي جعفر الثاني عليه السلام في السنجاب و الفنک والخز، وقلت: جعلت فداک احب ان لا تجيبني بالتقية في ذلک، فکتب الي بخطه: «صل فيها». لم يکن للامام بد، من اعمالها لصيانة دمه ودم شيعته حتي نري انه ربما کان يذم اخلص شيعته، کزرارة في غير واحد من المحافل حتي لا يوخذ و يضرب عنقه بحجة انه من شيعة ابي عبدالله الصادق عليه السلام .
و کانت بطانة علومه و خاصة شيعته يميزون الحکم الصادر عن تقية، عن الحکم الصادر لبيان الواقع عندما کانت تصل اليهم اجوبةالامام، فان کان علي وجه التقية يقولون لمن جاء به: « اعطاک من جراب النورة» وعندما کان يفتي بالحکم الواقعي يقولون: «اعطاک من عين صافية».
الامر الثاني: الاخذ بالمرجحات لازم
لا شک ان من رجع الي لسان الروايات يقف علي لزوم العمل بالمرجحات، ولا يمکن حملها علي الاستصحاب اذ کيف يمکن حمل الامر في قوله عليه السلام : «ما وافق کتاب الله فخذوه، وما خالف کتاب الله فردوه»علي الاستحباب، و قد سبق ان الامرحجة من المولي علي العبد، فليس له ترک العمل الا بحجة اخري.
واما ما هو ترتيب العمل بالمرجحات، فهل يقدم الترجيح بموافقة الکتاب علي الترجيح بمخالفة العامة او لا؟
الجواب: ان المستفاد من رواية عبد الرحمان بن ابي عبدالله هو تقديم


الترجيح بالاول علي الثاني و قد مضي نصها.
الامر الثالث: التعدي من المنصوص الي غير المنصوص
قد عرفت ان المنصوص من المرجحات لا يتجاوز الاثنين «موافقة الکتاب و مخالفة العامة»، و هل يجب الاقتصار عليهما، والرجوع في غيرهما الي اخبار التخيير، او يجوز التعدي من المنصوص الي غيره، فيعمل بکل خبر ذي مزية، و لاتصل النوبة الي اخبارالتخيير الا بعد تساوي الخبرين في کل مزية توجب اقربية احدهما الي الواقع؟
الحق هو الاول: لان اطلاق اخبار التخيير يفرض علينا التخيير في مطلق المتعارضين، سواء کانا متکافئين، خرجنا عن اطلاقها بروايات الترجيح، واما في غير موردها فالمحکم هو اخبار التخيير، فلو کان في احد الطرفين مزية غير منصوصة، فالتخيير هو المحکم.
النتائج المحصلة
قد فرجنا من هذا البحث الضافي في هذا المقصد بالنتائج التالية:
1. اذا کان التنافي بين الخبرين امرا غيرمستقر، يزول بالتدبر، فهو خارج عن باب التعارض، و داخل في باب الجمع الدلالي بين الخبرين.
2. ان القاعدة الاولية في الخبرين المتعارضين اللذين يکون التنافي بينهما امرا مستقرا، هو التساقط و الرجوع الي الدليل آخر، کالعمومات و الاطلاقات ان وجدت،

والا فالاصل العملي، لکن خرجنا عن تلک القاعدة باخبار التخيير.
3. ان المقتضي اخبار التخيير و ان کان هو التخيير بين الخبرين مطلقا،سواء کان هناک ترجيح او لا، لکن خرجنا عن مقتضي تلک الاخبار بلزوم اعمال المرجحات المنصوصة فقط دون غيرها. و هي منحصرة في موافقة الکتاب و مخالفة العامة والاول مقدم علي الثاني.