کفاية الاصول - قسمت يازدهم
منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلّا إنّه ما لم يتخلل في البين العدم ، بل وأنّ تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفاً وأنّ انفصل حقيقة ، كانت باقية مطلقاً أو عرفاً ، ويكون رفع اليد عنها ـ مع الشك في استمرارها وانقطاعها ـ نقضاً. ولا يعتبر في الاستصحاب ـ بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته ـ غير صدق النقض والبقاء كذلك قطعاً هذا. مع أن الانصرام والتدرج في الوجود في الحركة ـ في الأين وغيره ـ إنّما هو في الحركة القطعية ، وهي كون الشيء في كلّ آن في حدّ أو مكان ، لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فإنّه بهذا المعنى يكون قارّاً مستمراً.
فانقدح بذلك إنّه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار وترتيب مالهما من الآثار. وكذا كلما إذا كان الشك في الأمر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى ، أو إنّه بعد في البين. وأما إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره ، كما في نبع الماء وجريإنّه ، وخروج الدم وسيلإنّه ، فيما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في إنّه بقي في المنبع والرحم فعلاً شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما ، فربما يشكل في استصحابهما حينئذ ، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جارياً ، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريإنّه من جهة الشك في حدوثه ، ولكنه يتخيل بإنّه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب ، بحسب تعريفه ودليله حسبما عرفت.
ثم إنّه لا يخفى أن استصحاب بقاء الأمر التدريجي ، امّا يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه ، فإذا شك في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها ، صحّ فيه استصحاب الشخص والكلي ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة ، كان
من القسم الثّاني ، وإذا شك في إنّه شرع في أُخرى مع القطع بإنّه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث ، كما لا يخفى.
هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات.
وأما الفعل المقيد بالزمان ، فتارةً يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده ، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أُخرى ، كما إذا احتمل أن يكون التقييد (1) به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.
فإن كان من جهة الشك في بقاء القيد ، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ، كالنهار الذي قيد به الصوم مثلاً ، فيترتب عليه وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ، فيقال : إن الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب ، فتأمل.
وإن كان من الجهة الأخرى ، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلّا ظرفاً لثبوته لا قيداً مقوماً لموضوعه ، وإلاّ فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنّه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته له ـ أيضاً ـ شكّاً في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا في بقائه.
لا يقال : إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.
فإنّه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل ، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثّاني ، فلا يكون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.
__________________
1 ـ في « ب » التعبد.
لا يقال : فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلاّ النظرين ، ويقع التعارض بين الاستصحابين ، كما قيل.
فإنّه يقال : إنّما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين ، وإلاّ فلا يكاد يصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما ، فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا أُخذ قيداً ؛ لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي ، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في الأوّل ومتعدد في الثّاني بحسبه ؛ ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
نعم ، لا يبعد أن يكون بحسبه ـ أيضاً ـ متحداً فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه ، من جهة الشك في إنّه بنحو التعدد المطلوبي ، وأنّ حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وأنّ لم يكن باقياً بعده قطعاً ، إلّا إنّه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب ، فتأمل جيّداً.
إزاحة وهم : لا يخفى أن الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلها يكون مما إذا وجدت بأسبابها ، لا يكاد يشك في بقائها إلّا من قبل الشك في الرافع لها ، لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها ، ضرورة إنّها إذا وجدت بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها ، كانت من الأُمور الخارجية أو الأُمور الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذي ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة ، كما حكي عن بعضٍ الأفاضل (1) ، ولا يكون ها هنا أصل إلّا أصالة الطهارة أو
__________________
1 ـ هو الفاضل النراقي في مناهج الأحكام و الأصول / 242 ، في الفائدة الأولى من فوائد ذكرها ذيل
النجاسة.
الخامس : إنّه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقن حكماً فعلّياً مطلقاً ، لا ينبغي الإِشكال فيما إذا كان مشروطاً معلّقاً ، فلو شك في مورد لأجل طروء بعضٍ الحالات عليه في بقاء أحكامه ، ففيما صحّ استصحاب أحكامه المطلقة صحّ استصحاب أحكامه المعلقة ، لعدم الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام الاستصحاب من اليقين ثبوتاً والشك بقاء.
وتوهمّ (1) إنّه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد ، فإن المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً ، لا إنّه لا يكون موجوداً أصلاً ، ولو بنحو التعليق ، كيف؟ والمفروض إنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم ـ مثلاً ـ أو الإِيجاب ، فكان على يقين منه قبل طروء الحالة فيشك فيه بعده ، ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته ، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.
وبالجملة : يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أهمل أو أجمل ، كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً ، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة اللاحقة كالحالة السابقة ، فيحكم ـ مثلاً ـ بأنّ العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته ، من أحكامه المطلقة والمعلقة لو شك فيها ، فكما يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليإنّه.
إن قلت : نعم ، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلّق لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق ، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير
__________________
تتميم الاستصحاب بشروط الاستصحاب ، عند قوله : وإذا شك في بقاء الطهارة الشرعية الحاصلة بالوضوء ... الخ.
1 ـ راجع المناهل للسيد المجاهد / 652.
باستصحاب حلّيّته المطلقة.
قلت : لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي شك في بقاء حكم المعلّق بعده ؛ ضرورة إنّه كان مغيّاً بعدم ما علق عليه المعلّق ، وما كان كذلك لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلاً عن الاستصحاب ؛ لعدم المضادّة بينهما ، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب كما كانا معاً بالقطع قبل بلا منافاة أصلاً ، وقضية ذلك انتفاء الحكم (1) المطلق بمجرد ثبوت ما علّق عليه المعلّق ، فالغليان في المثال كما كان شرطاً للحرمة كان غاية للحلية ، فإذا شك في حرمته المعلّقة بعد عروض حالة عليه ، شك في حلّيّته المغيّاة لا محالة أيضاً ، فيكون الشك في حلّيته أو حرمته فعلاً بعد عروضها متّحداً خارجاً مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلّية والحرمة بنحو كانتا عليه ، فقضيّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّيته المغيّاة حرمته فعلاً بعد غليإنّه وانتفاء حليته ، فإنّه قضية نحو ثبوتهما كان بدليلهما أو بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب ، فالتفت ولا تغفل (2).
السادس : لا فرق أيضاً بين أن يكون المتيقّن من أحكام هذه الشريعة أو الشريعة السابقة ، إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه الشريعة ، لعموم أدلّة الاستصحاب ، وفساد توهّم اختلال أركإنّه فيما كان
__________________
1 ـ في « ب » حكم المطلق.
2 ـ كي لا تقول في مقام التفصي عن إشكال المعارضة : إن الشك في الحليّة فعلاً بعد الغليان يكون مسبّباً عن الشك في الحرمة المعلَّقة ، فيشك بإنّه لا ترتّب بينهما عقلاً ولا شرعاً ، بل بينهما ملازمة عقلاً ، لما عرفت من أن الشك في الحليّة أو الحرمة الفعليين بعده متحد مع الشك في بقاء حرمته وحليته المعلقة ، وأنّ قضية الاستصحاب حرمته فعلاً ، وانتفاء حلّيته بعد غليإنّه ، فإن حرمته كذلك وأنّ كان لازماً عقلاً لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلّا إنّه لازم لها ، كان ثبوتها بخصوص خطاب ، أو عموم دليل الاستصحاب ، فافهم منه ( 1 ).
المتيقّن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة ، إمّا لعدم اليقين بثبوتها في حقّهم ، وأنّ علم بثبوتها سابقاً في حق آخرين ، فلا شك في بقائها أيضاً ، بل في ثبوت مثلها ، كما لا يخفى ، وإمّا لليقين بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه الشريعة ، فلا شك في بقائها حينئذ ، ولو سلّم اليقين بثبوتها في حقّهم ؛ وذلك لأنّ الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتاً لافراد المكلف ، كانت محقّقة وجوداً أو مقدّرة ، كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة ، وهي قضايا حقيقية ، لا خصوص الأفراد الخارجية ، كما هو قضية القضايا الخارجية ، وإلاّ لما صحّ الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غير الموجود في زمان ثبوتها ، كان الحكم في الشريعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المكلف ممّن وجد أو يوجد ، وكان (1) الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته ، والشريعة السابقة وأنّ كانت منسوخة بهذه الشريعة يقيناً ، إلّا إنّه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها ، ضرورة أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالاً بارتفاع بعضها إنّما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها ، فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً ، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه ، كما إذا علم بمقداره تفصيلا ، أو في موارد ليس المشكوك منها ، وقد علم بارتفاع ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.
ثم لا يخفى إنّه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة (2) ـ أعلى الله في الجنان
__________________
1 ـ في كفاية اليقين بثبوته ، بحيث لو كان باقيا ولم ينسخ لعمه ، ضرورة صدق إنّه على يقين منه ، فشك فيه بذلك ، ولزوم اليقين بثبوته في حقه سابقاً بلا ملزم.
وبالجملة : قضية دليل الاستصحاب جريإنّه لاثبات حكم السابق للاحق وإسرائه إليه فيما كان يعمه ويشمله ، لولا طروء حالة معها يحتمل نسخه ورفعه ، وكان دليله قاصراً عن شمولها ، من دون لزوم كونه ثابتا له قبل طروئها أصلاً ، كما لا يخفى ( منه 1 ).
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وثانياً ان اختلاف الأشخاص .. الخ.
مقامه ـ في ذب إشكال (1) تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه الثّاني إلى ما ذكرنا ، لا ما يوهمه ظاهر كلامه ، من أن الحكم ثابت للكليّ ، كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام ، حيث لا مدخل للأشخاص فيها ؛ ضرورة أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلّق به كذلك ، بل لا بدّ من تعلقه بالأشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصية ، وكأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصة ، فافهم.
وأما ما أفاده من الوجه الأوّل (2) ، فهو وأنّ كان وجيها بالنسبة إلى جريان الاستصحاب في حقّ خصوص المدرك للشريعتين ، إلّا إنّه غير مجد في حق غيره من المعدومين ، ولا يكاد يتمّ الحكم فيهم ، بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضاً ، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلّا أن الاستصحاب حكم كلّ من كان على يقين فشك ، لا إنّه حكم الكلّ ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا واضح.
السابع : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاءً حكم مماثل للمستصحب في إستصحاب الأحكام ، ولأحكامه في استصحاب الموضوعاًت ، كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية ، وإنما الإِشكال في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية ، ومنشؤه أن مفاد الأخبار : هل هو تنزيل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو تنزيله بلوازمه العقلية أو العادية؟ كما هو الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناءً على
__________________
1 ـ الصحيح ما أثبتناه خلافاً لما في النسخ.
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وفيه أوّلاً .. الخ.
صحة التنزيل (1) بلحاظ أثر الواسطة أيضاً لأجل أن أثر الأثر أثر.
وذلك لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم يترتب عليه ما كان مترتباً عليها ، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبداً ، ولا يكون تنزيله بلحاظه ، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه ، أو بلحاظ ما يعم آثارها ، فإنّه يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.
والتحقيق : أن الأخبار إنّما تدلّ على التعبد بما كان على يقين منه فشك ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا يكون كذلك ، كما هي محلّ ثمرة الخلاف ، ولا على تنزيله بلحاظ ماله مطلقاً ولو بالواسطة ، فإن المتيقن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلاً ، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضاً لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه ، كما لا يخفى.
نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أن مفاد الأخبار عرفاً ما يعمه أيضاً حقيقة ، فافهم.
كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفاً بينه وبين المستصحب تنزيلاً ، كما لا تفكيك بينهما واقعاً ، أو بوساطة ما لأجل وضوح
__________________
1 ـ ولكن الوجه عدم صحة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة إنّه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلاً أو عادةً ، وحديث أثر الأثر أثر وأنّ كان صادقاً إلّا إنّه إذا لم يكن الترتب بين الشيء وأثره وبينه وبين مؤثره مختلفاً ، وذلك ضرورة إنّه لا يكاد يعد الأثر الشرعي لشيء أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلاً أو عادةً أصلاً ، لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي ، إلّا فيما عد أثر الواسطة أثرا لذيها لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بينهما ، بحيث عدا شيئاً واحداً ذا وجهين ، وأثر أحدهما أثر الاثنين ، كما يأتي الإِشارة إليه ، فافهم منه ( 1 ).
لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد أثره أثراً لهما ، فإن عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضاً ليقينه بالشك أيضاً ، بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفاً ، فافهم.
ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأُصول التعبدية وبين الطرق والأمارات ، فإن الطريق أو الامارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه ، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها ، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها ، وقضيته حجية المثبت منها كما لا يخفى ، بخلاف مثل دليل الاستصحاب ، فإنّه لا بدّ من الاقتصار مما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبارٍ المثبت منه ، كسائر الأصول التعبدية ، إلّا فيما عدّ أثر الواسطة أثراً له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حققناه.
الثامن : إنّه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب ، بين أن يكون مترتباً عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجوداً ، كان منتزعاً عن مرتبة ذاته ، أو بملاحظة بعضٍ عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة ، فإن الأثر في الصورتين إنّما يكون له حقيقة ، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه ، لغيره مما كان مبايناً معه ، أو من أعراضه مما كان محمولاً عليه بالضميمة كسواده مثلاً أو بياضه ، وذلك لأن الطبيعي إنّما يوجد بعين وجود فرده ، كما أن العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر ، لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهّم (1).
__________________
1 ـ المتوهم هو الشيخ (ره) في الأمر السادس من تنبيهات الاستصحاب عند قوله لا فرق في الأمر
وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتب عليه ، بين أن يكون مجعولاً شرعاً بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء الوضع ، أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية ، فإنّه أيضاً مما تناله يد الجعل شرعاً ويكون أمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولاً مستقلاً كما لا يخفى ، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطيّة أو المانعية بمثبت ، كما ربما توهّم (1) بتخيل أن الشرطيّة أو المانعية ليست من الآثار الشرعية ، بل من الأمور الانتزاعية ، فافهم.
وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجوده ، أو نفيه وعدمه ، ضرورة أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته. وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر ، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح ؛ فلا وجه للإشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف ، وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة (2) ، من أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية ، فإن عدم استحقاق العقوبة وأنّ كان غير مجعول ، إلّا إنّه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع ، وترتب عدم الاستحقاق مع كونه عقلّياً على استصحابه ، إنّما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر ، فتأمل.
التاسع : إنّه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر الغير الشرعي ولا
__________________
العادي … الخ فرائد الأصول / 384.
1 ـ المتوهم هو الشيخ (ره) في القول السابع في الاستصحاب ، عند قوله أن الثّاني مفهوم منتزع الخ فرائد الأُصول / 351.
2 ـ هذا مفاد كلام الشيخ في التمسك باستصحاب البراءة في ادلة اصل البراءة ، فرائد الأصول / 204.
الشرعي بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب ، إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً ، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلّا أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة ، أو بوساطة أثر شرعي آخر ، حسبما عرفت فيما مرّ (1) ، لا بالنسبة إلى ما كان للأثر الشرعي مطلقاً ، كان بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره الشرعية كانت أو غيرها يترتب عليه إذا ثبت ولو بأن يستصحب ، أو كان من آثار المستصحب ، وذلك لتحقق موضوعها حينئذ حقيقة ، فما للوجوب عقلاً يترتب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غير ذلك ، كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب ، بلا شبهة ولا ارتياب ، فلا تغفل.
العاشر : إنّه قد ظهر مما مرّ (2) لزوم أن يكون المستصحب حكماً شرعياً أو ذا حكم كذلك ، لكنه لا يخفى إنّه لابد أن يكون كذلك بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتاً فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكماً ولا له أثر شرعاً وكان في زمان استصحابه كذلك ـ أي حكماً أو ذا حكم ـ يصحّ استصحابه كما في استصحاب عدم التكليف ، فإنّه وأنّ لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم ، إلّا إنّه حكم مجعول فيما لا يزال ، لما عرفت من أن نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعاً ، وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتاً ، أو كان ولم يكن حكمه فعلياً وله حكم كذلك بقاءً ، وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل ، كما إذا قطع بارتفاعه يقيناً ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتاً فيه وفي تنزيلها بقاء ، فتوهم اعتبارٍ الأثر سابقاً ـ كما ربما يتوهمه الغافل من اعتبارٍ كون المستصحب حكماً أو ذا حكم ـ فاسد قطعاً ، فتدبرّ جيداً.
__________________
1 ـ راجع التنبيه السابع ، ص 413.
2 ـ المصدر المتقدم.
الحادي عشر : لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع.
وأما إذا كان الشك في تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه في زمان :
فإن لو حظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم تحققه في الزمان الأوّل ، وترتيب آثاره ؛ لا آثار تأخره عنه ، لكونه بالنسبة إليه مثبتاً إلّا بدعوى خفاء الواسطة ، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان وتأخره عنه عرفاً ، كما لا تفكيك بينهما واقعاً ، ولا آثار حدوثه في الزمان الثّاني ، فإنّه نحو وجود خاص ، نعم لا بأس بترتيبها بذا ك الاستصحاب ، بناءً على إنّه عبارة عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.
وإن لو حظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضاً ، وشك في تقدم ذاك عليه وتأخره عنه ، كما إذا علم بعروض حكمين أو موت متوارثين ، وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإن كانا مجهولي التاريخ :
فتارة كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا للآخر ولا له بنحو آخر ، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض ، بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كلّ منهما كذلك ، أو لكلّ من أنحاء وجوده ، فإنّه حينئذ يعارض ، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم في آخر ، لتحقق أركإنّه في كلّ منهما. هذا إذا كان الأثر المهمّ مترتباً على وجوده الخاص الذي كان مفاد كان التامة.
وأما إن كان مترتباً على ما إذا كان متصفاً بالتقدم ، أو بأحد ضديه الذي كان مفاد كان الناقصة ، فلا مورد ها هنا للاستصحاب ، لعدم اليقين السابق فيه ، بلا ارتياب.
وأخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر ، فالتحقيق إنّه أيضاً ليس
بمورد للاستصحاب ، فيما كان الأثر المهمّ مترتباً على ثبوته [ للحادث ، بأن يكون الأثر الحادث ] (1) المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر لعدم اليقين بحدوثه كذلك في زمان ، [ بل قضية الاستصحاب عدم حدوثه كذلك ، كما لا يخفى ] (2). وكذا فيما كان مترتباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً ، وأنّ كان على يقين منه في آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما ، لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان حدوث الآخر بزمان يقينه ، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.
وبالجملة (3) كان بعد ذاك الآن الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما زمانان : أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذي يكون ظرفا للشك في إنّه فيه أو قبله ، وحيث شك في أن أيّهما مقدم وأيّهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك.
لا يقال : لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذاك الآن ، وهو بتمامه زمان الشك في حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر ، مثلاً إذا كان على يقين من عدم حدوث واحد منهما في ساعة ، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة أُخرى بعدها ، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة ، كان زمان الشك في حدوث كلّ منهما تمام الساعتين لا خصوص أحدهما ، كما لا يخفى.
__________________
1 ـ جاءت العبارة في نسخة « أ » وحذفت من « ب ».
2 ـ أثبتنا الزيادة من « ب ».
3 ـ وأنّ شئت قلت : إن عدمه الأزلي المعلوم قبل الساعتين ، وأنّ كان في الساعة الأولى منهما مشكوكاً ، إلّا إنّه حسب الفرض ليس موضوعاً للحكم والأثر ، وإنما الموضوع هو عدمه الخاص ، وهو عدمه في زمان حدوث الآخر المحتمل كونه الساعة الأُولى المتصلة بزمان يقينه ، أو الثانية المنفصلة عنه ، فلم يحرز اتصال زمان شكه بزمان يقينه ، ولابد منه في صدق : لا تنقض اليقين بالشك ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانية لا يثبت عدمه في زمان حدوث الآخر إلّا على الأصل المثبت فيما دار الأمر بين التقدم والتأخر ، فتدبرّ ، منه ( 1 ).
فإنّه يقال : نعم ، ولكنه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض إنّه لحاظ إضافته إلى الآخر ، وإنّه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أن زمان شكه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتين.
فانقدح إنّه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أركإنّه لا إنّه مورده ، وعدم جريإنّه إنّما هو بالمعارضة ، كي يختص بما كان الأثر لعدم كلّ في زمان الآخر ، وإلاّ كان الاستصحاب فيما له الأثر جارياً.
وأما لو علم بتاريخ أحدهما ، فلا يخلو أيضاً امّا يكون الأثر المهمّ مترتباً على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن ، فلا إشكال في استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه ، كما تقدم.
وإما يكون مترتباً على ما إذا كان متصفاً بكذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً ، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه كما لا يخفى ، لعدم اليقين بالاتصاف به سابقاً فيهما.
وإما يكون مترتباً على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر ، فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جارياً ، لاتصال زمان شكه بزمان يقينه ، دون معلومه لانتفاء الشك فيه في زمان ، وإنما الشك فيه بإضافة زمإنّه إلى الآخر ، وقد عرفت جريإنّه فيهما تارةً وعدم جريإنّه كذلك أُخرى.
فانقدح إنّه لا فرق بينهما ، كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين ، ولا بين مجهوله ومعلومه في المختلفين ، فيما اعتبر في الموضوع خصوصية ناشىء ة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم ، أو أحد ضديه وشك فيها ، كما لا يخفى.
كما انقدح إنّه لا مورد للاستصحاب أيضاً فيما تعاقب حالتان متضادتان
كالطهارة والنجاسة ، وشك في ثبوتهما وانتفائهما ، للشك في المقدم والمؤخر منهما ، وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما ، وترددها بين الحالتين ، وإنّه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأملّ في المقام فإنّه دقيق.
الثاني عشر : إنّه قد عرفت (1) أن مورد الاستصحاب لابد أن يكون حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم كذلك ، فلا إشكال فيما كان المستصحب من الأحكام الفرعية ، أو الموضوعاًت الصرفة الخارجية ، أو اللغوية إذا كانت ذات احكام شرعية.
وأما الأمور الاعتقادية التي كان المهمّ فيها شرعاً هو الانقياد والتسليم والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها من الأعمال القلبية الاختيارية ، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكماً وكذا موضوعاً ، فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لصحة التنزيل وعموم الدليل ، وكونه أصلاً عمليا إنّما هو بمعنى إنّه وظيفة الشك تعبّداً ، قبالاً للأمارات الحاكية عن الواقعيات ، فيعم العمل بالجوانح كالجوارح ، وأما التي كان المهمّ فيها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعاً ويجري حكماً ، فلو كان متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشيء ـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان وشك في بقاء وجوبه ، يستصحب.
وأما لو شك في حياة إمام زمانٍ مثلاً فلا يستصحب ، لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمإنّه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه ، ولا يكاد يجدي في مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً ، إلّا إذا كان حجة من باب إفادته الظن وكان المورد مما يكتفى به أيضاً ، فالاعتقاديات كسائر الموضوعاًت لابد في جريإنّه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي ، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه ، كان ذاك متعلقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.
__________________
1 ـ في التنبيه السابع / ص 413.
وقد انقدح بذلك إنّه لا مجال له في نفس النبوّة ، إذا كانت ناشىء ة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها ، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها ، امّا لعدم الشك فيها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم كونها مجعولة بل من الصفات الخارجية التكوينية ، ولو فرض الشك في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها بتلك المثابة ، كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات والمجاهدات ، وعدم أثر شرعي مهم لها يترتب عليها باستصحابها.
نعم لو كانت النبوّة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية ، وأنّ كان لابد في إعطائها من أهليّة وخصوصيّة يستحق بها لها ، لكانت مورداً للاستصحاب بنفسها ، فيترتب عليها آثارها ولو كانت عقلية بعد استصحابها ، لكنه يحتاج إلى دليل كان هناك غير منوط بها ، وإلاّ لدار ، كما لا يخفى.
وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعضٍ أحكام شريعة من اتّصف بها ، فلا إشكال فيها كما مرّ (1).
ثم لا يخفى أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم ، إلّا إذا اعترف بإنّه على يقين فشك ، فيما صحّ هناك التعبّد والتنزيل ودل عليه الدليل ، كما لا يصحّ أن يقنع به إلّا مع اليقين والشك والدليل على التنزيل.
ومنه انقدح إنّه لا موقع لتشبّث الكتابي باستصحاب نبوّة موسى أصلاً ، لا إلزاماً للمسلم ، لعدم الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، واليقين بنسخ شريعته ، وإلاّ لم يكن بمسلم ، مع إنّه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بإنّه على يقين وشك ؛ ولا اقناعاً مع الشك ، للزوم معرفة النبي بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً ، وعدم الدليل على التعبد بشريعته لا عقلاً ولا شرعاً ، والاتكال على قيامه في شريعتنا لا يكاد يجديه إلّا على نحو محال ؛ ووجوب العمل بالاحتياط عقلاً في حال
__________________
1 ـ في التنبيه السادس / ص 411.
عدم المعرفة بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الإِجمال ، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.
الثالث عشر : إنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة مثل العام ، لكنه ربما يقع الإِشكال والكلام فيما إذا خصّص في زمان في أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام.
والتحقيق أن يقال : إن مفاد العام ، تارةً يكون ـ بملاحظة الزمان ـ ثبوت حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، وأخرى على نحو جعل كلّ يوم من الأيام فرداً لموضوع ذاك العام. وكذلك مفاد مخصصه ، تارةً يكون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه ، وأُخرى على نحو يكون مفرداً ومأخوذاً في موضوعه.
فإن كان مفاد كلّ من العام والخاص على النحو الأوّل ، فلا محيص عن استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته ، لعدم دلالة للعام على حكمه ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدالّ على ثبوت الحكم له في الزمان السابق ، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق ، فلا مجال إلّا لاستصحابه.
نعم لو كان الخاص غير قاطع لحكمه ، كما إذا كان مخصصاً له من الأوّل ، لما ضرَّ به في غير مورد دلالته ، فيكون أول زمان استمراد حكمه بعد زمان دلالته ، فيصحّ التمسك ب ( أَوْفُوا بِالْعُقُود ِ) (1) ولو خصّص بخيار المجلس ونحوه ، ولا يصحّ التمسك به فيما إذا خصص بخيار لا في أولّه ، فافهم.
وإن كان مفادهما على النحو الثّاني ، فلا بدّ من التمسك بالعام بلا كلام ،
__________________
1 ـ سورة المائدة : الآية 1.
لكون موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان من أفراده ، فله الدلالة على حكمه ، والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه.
وإن كان مفاد العام على النحو الأوّل والخاص على النحو الثّاني ، فلا مورد للاستصحاب ، فإنّه وأنّ لم يكن هناك دلالة أصلاً ، إلّا أن انسحاب الحكم الخاص إلى غير مورد دلالته من إسراء حكم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حكم الموضوع ، ولا مجال أيضاً للتمسك بالعام لما مرّ آنفاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر الأصول.
وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام ، للاقتصار في تخصيصه بمقدار دلالة الخاص ، ولكنه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعاً ، لما عرفت من أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحو صحّ استصحابه ؛ فتأمل تعرف أن إطلاق كلام (1) شيخنا العلامة ( أعلى الله مقامه ) في المقام نفياً وإثباتاً في غير محله.
الرابع عشر : الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو خلاف اليقين ، فمع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب. ويدل عليه ـ مضافاً إلى إنّه كذلك لغةً كما في الصحاح ، وتعارف استعماله فيه في الإخبار في غير باب ـ قوله 7 في أخبار الباب : ( ولكن تنقصه بيقين آخر ) حيث إنّ ظاهره إنّه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وإنّه ليس إلّا اليقين ، وقوله أيضاً : ( لا حتى يستيقن إنّه قد نام ) بعد السؤال عنه 7 عمّا ( إذا حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ) حيث دلّ بإطلاقه مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الامارة الظن ، وما إذا لم تفد ، بداهة إنّها لو لم تكن مفيدة له دائماً لكانت مفيدة له أحياناً ، على عموم النفي لصورة الإِفادة ، وقوله 7 بعده : ( ولا تنقض اليقين بالشك ) أن الحكم في المغيّا مطلقاً هو عدم نقض اليقين بالشك ، كما لا
__________________
1 ـ راجع الأمر العاشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 395.
يخفى.
وقد استدل عليه أيضاً بوجهين آخرين :
الأول (1) : الإجماع القطعي على اعتبارٍ الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الإخبار.
وفيه : إنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار ، لاحتمال أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الإخبار عليه.
الثاني (2) : إن الظن الغير المعتبر ، إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلما يترتب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده ، وأنّ كان مما شك في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلّي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك ، فتأمل جيداً.
وفيه : إن قضية عدم اعتباره لإلغائه أو لعدم الدليل على اعتباره لا يكاد يكون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبداً ، ليترتب عليه آثاره شرعاً ، لا ترتيب آثار الشك مع عدمه ، بل لابد حينئذ في تعيين أن الوظيفة أيّ أصل من الأُصول العملية من الدليل ، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبارٍ الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الأُصول بلا شبهة ولا ارتياب ، ولعله أُشير إليه بالأمر بالتأمل (3) ، فتأمل جيداً.
تتمة : لا يذهب عليك إنّه لا بدّ في الاستصحاب من بقاء الموضوع ، وعدم
__________________
1 ـ هذا هو الوجه الأوّل في استدلال الشيخ (ره) على تعميم الشك ، في الأمر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 389.
2 ـ هذا هو الوجه الثالث في استدلال الشيخ (ره) على تعميم الشك ، في الأمر الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 398.
3 ـ راجع فرائد الأصول ، الأمر الثّاني عشر من تنبيهات الاستصحاب / 389.
أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه ، فها هنا مقامان :
المقام الأوّل : إنّه لا إشكال في اعتبارٍ بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعاً ، كاتحادهما حكماً ، ضرورة إنّه بدونه لا يكون الشك في البقاء بل في الحدوث ، ولارفع اليد عن اليقين في محلّ الشك نقض اليقين بالشك ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان ، والاستدلال (1) عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخصه به غريب ، بداهة أن استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبداً ، والالتزام بآثاره شرعا.
وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً ، فلا يعتبر قطعاً في جريإنّه لتحقق أركإنّه بدونه ، نعم ربما يكون مما لابد منه في ترتيب بعضٍ الآثار ، ففي استصحاب عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده ، وأنّ كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الانفاق عليه.
وإنما الإِشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دليل الحكم؟ أو بنظر العقل؟ فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام ، لقيام احتمال تغيّر الموضوع في كلّ مقام شك في الحكم بزوال بعضٍ خصوصيات موضوعه ، لاحتمال دخله فيه ، ويختص بالموضوعاًت ، بداهة إنّه إذا شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة ؛ بخلاف ما لو كان بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل ، ضرورة أن انتفاء بعضٍ الخصوصيات وإن كان موجباً للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في موضوعه ، إلّا إنّه ربما لا يكون بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته.
كما إنّه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً ، مثلاً
__________________
1 ـ استدل به الشيخ (ره) في خاتمة الاستصحاب ، في شروط جريان الاستصحاب ، فرائد الأصول / 400.
إذا ورد ( العنب إذا غلى يحرم ) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهإنّهم ويتخيلونه من المناسبات بين الحكم وموضوعه ، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوماً بما حكم به العنب ، كان عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان محكوماً به كان من بقائه ، ولا ضير في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهإنّهم بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه.
ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فيكون نقضاً بلحاظ موضوع ، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلابد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره ، من بيان أن خطاب ( لا تنقض ) قد سيق بأي لحاظ؟.
فالتحقيق أن يقال : إن قضية إطلاق خطاب ( لا تنقض ) هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي ، لإنّه المنساق من الإِطلاق في المحاورات العرفية ومنها الخطابات الشرعية ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم ، لا محيص عن الحمل على إنّه بذاك اللحاظ ، فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وأنّ لم يحرز بحسب العقل أو لم يساعده النقل ، فيستصحب مثلاً ما ثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيباً ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين عرفاً ، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك وأنّ كان هناك اتحاد عقلاً ، كما مرت الإِشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي (1) ، فراجع.
المقام الثّاني : إنّه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة
__________________
1 ـ في نهاية التنبيه الثالث / ص 406.
في مورد ، وإنما الكلام في إنّه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه.
والتحقيق إنّه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.
لا يقال : نعم ، هذا لو أُخذ بدليل الامارة في مورده ، ولكنه لِمَ لا يؤخذ بدليله ويلزم الأخذ بدليلها؟
فإنّه يقال : ذلك إنّما هو لأجل إنّه لا محذور في الأخذ بدليلها بخلاف الأخذ بدليله ، فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص إلّا على وجه دائر ، إذ التخصيص به يتوقف على اعتباره معها ، واعتباره كذلك يتوقف على التخصيص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، كما عرفت آنفاً. وأما حديث الحكومة (1) فلا أصل له أصلاً ، فإنّه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتاً وبما هو مدلول الدليل ، وأنّ كان د إلّا على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن قضية دليله إلغائها كذلك ، فإن كلاً من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.
وأما التوفيق ، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وأنّ كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت من إنّه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشك ، لا إنّه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.
__________________
1 ـ القائل بها هو الشيخ الاعظم (ره) ، راجع فرائد الأُصول ، في خاتمة الاستصحاب ، الشرط الثالث في جريان الاستصحاب / 407.
خاتمة
لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأُصول العملية ، وبيان التعارض بين الاستصحابين.
أما الأوّل : فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الأمارة وبينه ، فيقدّم عليها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصيص إلّا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلاً ، هذا في النقلية منها.
وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة إنّه إتمام حجّة وبيان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان ، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلاً صحيح.
وأما الثّاني : فالتعارض بين الاستصحابين ، إن إن لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم (1) الواجبين.
__________________
1 ـ فيتخير بينهما إن لم يكن أحد المستصحبين أهم ، وإلاّ فيتعين الأخذ بالأهم ، ولا مجال لتوهم إنّه لا يكاد يكون هناك أهم ، لأجل أن إيجابهما إنّما يكون من باب واحد وهو استصحابهما من دون مزية في أحدهما أصلاً ، كما لا يخفى ، وذلك لأن الاستصحاب إنّما يثبت المستصحب ، فكما يثبت به الوجوب والاستحباب ، يثبت به كلّ مرتبة منهما ، فيستصحب ، فلا تغفل منه ( 1 ).
وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، فتارة يكون المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر ، فيكون الشك فيه مسبباً عن الشك فيه ، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان طاهراً ، وأُخرى لا يكون كذلك.
فإن كان أحدهما أثراً للآخر ، فلا مورد إلّا للاستصحاب في طرف السبب ، فإن الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب ، وجواز نقض اليقين بالشك في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي ، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب بالشك ، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحكوم شرعاً بطهارته.
وبالجملة فكل من السبب والمسبب وأنّ كان مورداً للاستصحاب ، إلّا أن الاستصحاب في الأوّل بلا محذور (1) ، بخلافه في الثّاني ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال ، فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببي ، نعم لو لم يجر هذا
__________________
1 ـ وسرّ ذلك أن رفع اليد عن اليقين في مورد السبب يكون فرداً لخطاب : لا تنقض اليقين ، ونقضاً لليقين بالشك مطلقاً بلا شك ، بخلاف رفع اليد عن اليقين في مورد المسبب ، فإنّه إنّما يكون فرداً له إذا لم يكن حكم حرمة النقض يعمّ النقض في مورد السبب ، وإلاّ لم يكن بفرد له ، إذ حينئذ يكون من نقض اليقين باليقين ، ضرورة إنّه يكون رفع اليد عن نجاسة الثوب المغسول بماء محكوم بالطهارة شرعاً ، باستصحاب طهارته لليقين بأن كلّ ثوب نجس يغسل بماء كذلك يصير طاهراً شرعاً. وبالجملة من الواضح لمن له أدنى تأمل ، أن اللازم ـ في كلّ مقام كان للعام فرد مطلق ، وفرد كان فرديته له معلقة على عدم شمول حكمه لذلك الفرد المطلق كما في المقام ، أو كان هناك عاماًن كان لاحدهما فرد مطلق وللآخر فرد كانت فرديته معلقة على عدم شمول حكم ذاك العام لفرده المطلق ، كما هو الحال في الطرق في مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حكم العام لفرده المطلق حيث لا مخصص له ، ومعه لا يكون فرد آخر يعمّه أو لا يعمّه ، ولا مجال لأن يلتزم بعدم شمول حكم العام للفرد المطلق ليشمل حكمه لهذا الفرد ، فإنّه يستلزم التخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر كما لا يخفى على ذوي البصائر منه ( 1 ).
الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جارياً ، فإنّه لا محذور فيه حينئذ مع وجود أركإنّه وعموم خطابه (1).
وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر ، فالاظهر جريإنّهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف الفعلّي المعلوم إجمالاً ، لوجود المقتضي إثباتاً وفقد المانع عقلاً.
أما وجود المقتضي ، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف المعلوم بالإِجمال ، فإن قوله 7 في ذيل بعضٍ أخبار الباب : ( ولكن تنقض اليقين باليقين ) (2) لو سلّم إنّه يمنع (3) عن شمول قوله 7 في صدره : ( لا تنقض اليقين بالشك ) لليقين والشك في أطرافه ، للزوم المناقضة في مدلوله ، ضرورة المناقضة بين السلب الكلّي والإِيجاب الجزئي ، إلّا إنّه لا يمنع عن عموم النهي في سائر الإخبار مما ليس فيه الذيل ، وشموله لما في أطرافه ، فإن إجمال ذاك الخطاب لذلك لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك.
وأما فقد المانع ، فلأجل أن جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلّا المخالفة الالتزامية ، وهو ليس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً.
ومنه قد انقدح عدم جريإنّه في أطراف العلم بالتكليف فعلاً أصلاً ولو في بعضها ، لوجوب الموافقة القطعية له عقلاً ، ففي جريإنّه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية ، كما لا يخفى.
تذنيب
لا يخفى أن مثل قاعدة التجاوز في حال الإِشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ
__________________
1 ـ في نسخة « أ » سقط من هنا إلى بداية المقصد الثامن.
2 ـ التهذيب 1 / 8 الحديث 11.
3 ـ هذا ردّ لوجه منع الشيخ عن جريان الاستصحابين ، راجع فرائد الأصول 429 ، خاتمة الاستصحاب ، القسم الثّاني من تعارض الاستصحابين عند قوله : بل لأن العلم الإِجمالي هنا .. الخ.
بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغير إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية إلّا القرعة تكون مقدّمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما شك فيه من الموضوعاًت ، لتخصيص دليلها بأدلتها ، وكون النسبة بينه وبين بعضها عموماً من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها بعد الإجماع على عدم التفصيل بين مواردها ، مع لزوم قلة المورد لها جداً لو قيل بتخصيصها بدليلها ، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها ، كما لا يخفى.
وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها ، لأخصيّة دليله من دليلها ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها ، واختصاصها بغير الأحكام إجماعاً لا يوجب الخصوصية في دليلها بعد عموم لفظها لها ، هذا مضافاً إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه ، حتى صار العمل به في مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم ، كما قيل ، وقوّة دليله بقلة تخصيصه بخصوص دليل.
لا يقال : كيف يجور تخصيص دليلها بدليله؟ وقد كان دليلها رافعاً لموضوع دليله لا لحكمه ، وموجباً لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه ، كما هو الحال بينه وبين أدلة سائر الأمارات ، فيكون ـ هاهنا أيضاً ـ من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه غير دائر والتخصّص.
فإنّه يقال : ليس الأمر كذلك ، فإن المشكوك مما كانت له حالة سابقة وأنّ كان من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوإنّه الواقعي ، إلّا إنّه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشك ، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق لا في الجملة ، فدليل الاستصحاب الدالّ على حرمة النقض الصادق عليه حقيقة ، رافع لموضوعه أيضاً ، فافهم.
فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليله ، لوهن عمومها وقوة عمومه ، كما أشرنا إليه آنفاً ، والحمد لله أولاً وآخراً ، وصلى الله على محمد وآله باطناً وظاهراً.
المقصد الثامن
في تعارض الادلة والامارات
فصل
التعارض هو تنافي الدليلين أو الادلة بحسب الدلالة ومقام الإِثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضاً ، بأن علم بكذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً. وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما ، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظراً إلى بيان كمية ما أُريد من الآخر ، مقدماً (1) كان أو مؤخراً. أو كانا على نحو إذا عرضنا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما ، كما هو مطرد في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعاًت بعناوينها الأولية ، مع مثل الادلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار ، مما يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية ، حيث يقدم في مثلهما الادلة النافية ، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلاً ويتفق في غيرهما ، كما لا يخفى.
__________________
1 ـ خلافاً لما يظهر في عبارة الشيخ من اعتبارٍ تقدم المحكوم ، راجع فرائد الأصول 432 ، التعادل والترجيح ، عند قوله وضابط الحكومة .. الخ.
أو بالتصرف فيهما ، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما ، أو في أحدهما المعينّ ولو كان الآخر أظهر. ولذلك تقدم الأمارات المعتبرة على الأُصول الشرعية ، فإنّه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها عليه بعد ملاحظتهما ، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلاً ، بخلاف العكس فإنّه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر ، كما أشرنا إليه (1) في أواخر الاستصحاب.
وليس (2) وجه تقديمها حكومتها على أدلتها بعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه ؛ وتعرضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلاّ كانت أدلتها أيضاً دالّة ـ ولو بالالتزام ـ على أن حكم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو مستلزم عقلاً نفي ما هو قضية الأمارة ، بل ليس مقتضى حجيتها إلّا نفي ما قضيته عقلاً من دون دلالة عليه لفظاً ، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلّا على الحكم الواقعي ، وقضية حجيتها ليست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً المنافي عقلاً للزوم العمل على خلافه وهو قضية الأصل ، هذا مع احتمال أن يقال : إنّه ليس قضية الحجية شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجة عقلاً وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه في صورة المخالفة.
وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبداً ، كي يختلف الحال ويكون مفاده في الأمارة نفي حكم الأصل ، حيث إنّه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه ، لأجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه ، كيف؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله ، فافهم وتأملّ جيداً.
فانقدح بذلك إنّه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والأمارة ، إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً ، فلا تغفل ، هذا ولا تعارض أيضاً إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، كما في الظاهر مع النص أو الأظهر ، مثل
__________________
1 ـ في خاتمة الاستصحاب / ص 430.
2 ـ القائل بالحكومة هو الشيخ في فرائد الأصول 432 ، أول مبحث التعادل والترجيح.
العام والخاص والمطلق والمقيد ، أو مثلهما مما كان أحدهما نصاً أو أظهر ، حيث إنّ بناءً العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.
وبالجملة : الأدلة في هذه الصور وأنّ كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلّا إنّها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الإِثبات ، بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفاً ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين ؛ ولا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعياً أو ظنياً أو مختلفاً ، فيقدّم النص أو الأظهر ـ وأنّ كان بحسب السند ظنياً ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعياً.
وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإِثبات ، وإنما يكون التعارض بحسب السند فيما إذا كان كلّ واحد منها قطعياً دلالة وجهة ، أو ظنياً فيما إذا لم يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكلّ ؛ فإنّه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في الكلّ ، امّا للعمل بكذب أحدهما ، أو لأجل إنّه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ ، كما لا يخفى.
فصل
التعارض وأنّ كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأساً ، حيث لا يوجب إلّا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر ، إلّا إنّه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعاً ـ فإنّه لم يعلم كذبه إلّا كذلك ، واحتمال كون كلّ منهما كاذباً ـ لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤدّاه ، لعدم التعيّن في الحجة أصلاً ، كما لا يخفى.
نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعين لذلك لا بهما ، هذا بناءً على حجية الأمارات من باب
الطريقية ، كما هو كذلك حيث لا يكاد يكون حجة طريقاً إلّا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعاً عن حجيته ،
وأما بناءً على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلّا فيه ، كما هو المتيقن من دليل اعتبارٍ غير السند منها ، وهو بناءً العقلاء على أصالتي الظهور والصدور ، لا للتقية ونحوها ، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضاً ، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والأخبار ، ضرورة ظهورها فيه ، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
وأما لو كان المقتضي للحجية في كلّ واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين ، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكماً غير إلزامي ، فإنّه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء ، إلّا أن يقال بأن قضية اعتبارٍ دليل الغير الالزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي الإلزامي ، ويحكم فعلاً بغير الإلزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي الغير الإلزامي ، لكفاية عدم تمامية علّة الإلزامي في الحكم بغيره.
نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الأحكام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به. وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وأنّ كان واضحاً ، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الأحكام ، إلّا إنّه لا دليل نقلاً ولا عقلاً على الموافقة الالتزامية للأحكام الواقعية فضلاً عن الظاهرية ، كما مرّ تحقيقه (1).
وحكم التعارض بناءً على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم
__________________
1 ـ في مبحث القطع ، الأمر الخامس ، ص 268.
يكن أحدهما معلوم الاهمية أو محتملها في الجملة ، حسبما فصلناه (1) في مسألة الضد ، وإلاّ فالتعيين ، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحكم الالزامي ، لو لم يكن في الآخر مقتضياً لغير الالزامي ، وإلاّ فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه آنفاً ، فافهم.
هذا هو قضية القاعدة في تعارض الأمارات ، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما ، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في الصور السابقة ، مع أن في الجمع كذلك أيضاً طرحا للأمارة أو الأمارتين ، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيين ، وفي السندين إذا كانا ظنيين ، وقد عرفت أن قضية التعارض إنّما هو سقوط المتعارضين في خصوص كلّ ما يؤديان إليه من الحكمين ، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرّف فيهما أو في أحدهما ، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليلٍ يساعد عليه من عقل أو نقل. فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفاً ، ولا ينافيه الحكم بإنّه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه ، فإن أولويته من قبيل الأولويّة في أُولي الأرحام ، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.
فصل
لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الأمارات ، إنّما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها ، وإلاّ فربما يَّدعى الإجماع على عدم سقوط كلاّ المتعارضين في الأخبار ، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الأخبار. ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم
__________________
1 ـ لم يتقدم منه ـ 1 ـ في مسألة الضد تفصيل ولا إجمال من هذه الحيثية ، نعم له تفصيل في تعليقته على الرسالة ، راجع حاشية فرائد الأصول / 269 ، عند قوله : اعلم أنّ منشأ الاهمية تارةً ... الخ.
تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجيته تخييراً أو تعييناً ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته ، والأصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته ، بل ربما ادعي الاجماع (1) أيضاً على حجية خصوص الراجح ، واستدل عليه بوجوه أُخر أحسنها الأخبار ، وهي على طوائف :
منها : ما دلّ على التخيير على الإِطلاق ، كخبر (2) الحسن بن الجهم ، عن الرضا 7 : ( قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسّع عليك بأيهما أخذت ). وخبر (3) الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبدالله 7 : ( إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسّع عليك حتى ترى القائم فترد عليه ). ومكاتبة (4) عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن 7 ( اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبدالله 7 ، في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صلِّ في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلّا في الأرض ، فوقع 7 : موسع عليك بأية عملت ) ومكاتبة الحميري (5) إلى الحجّة 7 ـ إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان ... إلى أن قال 7 ـ ( وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صواباً ) إلى غير ذلك من الإطلاقاًت.
ومنها : ما (6) دلّ على التوقف مطلقاً.
ومنها : ما (7) دلّ على ما هو الحائط منها.
__________________
1 ـ ادعاه الشيخ في فرائد الأصول 441 ، المقام الثّاني في التراجيح من مبحث التعادل والتراجيح.
2 ـ الاحتجاج 357 ، في احتجاجات الامام الصادق 7.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ التهذيب 3 ، الباب 23 ، الصلاة في السفر ، الحديث 92 ، مع اختلاف يسير.
5 ـ الاحتجاج 483 ، في توقيعات الناحية المقدسة.
6 ـ الأصول من الكافي 1 / 66 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 7. عوالي اللآلي 4 / 133 ، الحديث 230.
7 ـ وسائل الشيعة 18 / 111 ، الباب 12 من ابواب صفات القاضي.
ومنها : ما دلّ (1) على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة ، والأعدلية ، والأصدقية ، والأفقهية والأورعية ، والاوثقية ، والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها.
ولأجل اختلاف الإخبار اختلفت الانظار.
فمنهم من أوجب الترجيح بها ، مقيدين بأخباره إطلاقاًت التخيير ، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته ، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (2) ، أو المفيدة للظن ، كما ربما يظهر من غيره (3).
فالتحقيق أن يقال : إنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الإخبار هو المقبولة (4) والمرفوعة (5) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جداً ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال ، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره ، كما لا يخفى.
ولا وجه لدعوى تنقيح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين ، وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلّا بالترجيح ولذا أمر 7 بإرجاء الواقعة إلى لقائه 7 في صورة
__________________
1 ـ وسائل الشيعة 18 / 75 الباب 9 من ابواب صفات القاضي.
2 ـ فرائد الأصول 450 ، في المقام الثالث من مقام التراجيح.
3 ـ مفاتيح الأصول / 688 ، التنبيه الثّاني من تنبيهات تعارض الدليلين.
4 ـ التهذيب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحديث 52. الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث 15
الفقيه 3 / 5 ، الباب 9 ، الحديث 2.
5 ـ عوالي اللآلي 4 / 133 الحديث 229.
تساويهما فيما ذكر من المزايا ، بخلاف مقام الفتوى ؛ ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضاً لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقاً ولو في غير مورد الحكومة ، كما لا يخفى.
وإن أبيت إلّا عن ظهورهما في الترجيح في كلاّ المقامين ، فلا مجال لتقييد إطلاقاًت التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الإمام 7 بهما ، لقصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه 7 ، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح ، مع أن تقييد الإطلاقاًت الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين ـ بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين ، مع ندرة كونهما متساويين جداً ـ بعيد قطعاً ، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب ، كما فعله بعضٍ الأصحاب (1) ، ويشهد به الاختلاف الكثير بين ما دلّ على الترجيح من الأخبار.
ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً ، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة ، بشهادة ما (2) ورد في إنّه زخرف ، وباطل ، وليس بشيء ، أو إنّه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وكذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به ـ غير جارية ، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك ، وكذا الصدور أو
__________________
1 ـ الظاهر هو السيد الصدر شارح الوافية ، لكنه ; حمل جميع أخبار الترجيح على الاستحباب ، شرح الوافية ، ص مخطوط.
2 ـ الوسائل 18 / 78 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضي ، الأحاديث : 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48.
والمحاسن : 1 / 220 ، الباب 11 ، الأحاديث 128 إلى 131 وص 225 ، الباب 12 ، الحديث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحديث 150.
الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهوناً بحيث لا يعمه أدلة اعتبارٍ السند ولا الظهور ، كما لا يخفى ، فتكون هذه الإخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة ، فافهم.
وإن أبيت عن ذلك ، فلا محيص عن حملها توفيقاً بينها وبين الإطلاقاًت ، امّا على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا ، هذا ثم إنّه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضاً في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه ، كيف يمكن تقييد مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل )؟ كما لا يخفى.
فتلخص ـ مما ذكرنا ـ أن إطلاقاًت التخيير محكمة ، وليس في الإخبار ما يصلح لتقييدها.
نعم قد استدل على تقييدها ، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر :
منها : دعوى (1) الاجماع على الأخذ بأقوى الدليلين.
وفيه أن دعوى الاجماع ـ مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي : ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير ـ مجازفة.
ومنها (2) : إنّه لو لم يجب ترجيح ذي المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً ، بل ممتنع قطعاً.
وفيه إنّه إنّما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الإنسان ، وكان الترجيح بها بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح ، هذا.
مضافاً إلى ما هو في الإِضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع ، من أن
__________________
1 ـ حكاه الشيخ (ره) عن كلام جماعة / فرائد الأصول 469 ، المرجحات الخارجية ، من الخاتمة في التعادل والتراجيح.
2 ـ استدل به المحقق القمي (ره) قوانين الأصول 2 / 278 ، في قانون الترجيح من الخاتمة.
الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ومنها الأحكام الشرعية ، لا يكون إلا قبيحاً ، ولا يستحيل وقوعه إلّا على الحكيم تعالى ، وإلاّ فهو بمكان من الإِمكان ، لكفاية إرادة المختار علّة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة ، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح ، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.
وبالجملة : الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علّة محال ، وبمعنى بلا داعٍ عقلاًئي قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه.
ومنها : غير ذلك (1) مما لا يكاد يفيد الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.
ثم إنّه لا إشكال في الإفتاء بما اختاره من الخبرين ، في عمل نفسه وعمل مقلديه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ، لعدم الدليل عليه فيها.
نعم له الافتاء به في المسألة الأُصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه.
وهل التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بإنّه قضية الإطلاقاًت أيضاً كونه استمرارياً.
وتوهمّ (2) أن المتحيّر كان محكوماً بالتخيير ، ولا تحير له بعد الاختيار ، فلا يكون الإِطلاق ولا الاستصحاب مقتضياً للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فيهما ، فاسد ، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله ، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعاً للتخيير أصلاً ، كما لا يخفى.
فصل
هل على القول بالترجيح ، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل (3) بالتعدي ، لما في الترجيح بمثل الاصدقية
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول 442 ـ 444 ، المقام الثّاني من مقام التراجيح.
2 ـ يظهر ذلك من الشيخ (ره) في فرائد الأصول 440 ، المقام الأوّل في المتكافئين.
3 ـ القائل هو الشيخ ( قده ) ونسبه إلى جمهور المجتهدين ، فرائد الأصول / 450.
والأوثقية ونحوهما ، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع ، ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه ، من استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب ، ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم.
ولا يخفى ما في الاستدلال بها :
أما الأوّل : فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الإراءة والطريقية حجة أو مرجحاً لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى ، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته ، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلّا تعبداً ، فافهم.
وأما الثّاني : فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها ، مع أن الشهرة في الصدر الأوّل بين الرواة وأصحاب الأئمة ـ : ـ موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها ، بحيث يصحّ أن يقال عرفاً : إنّها مما لا ريب فيها ، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى كلّ مزية ولو لم يوجب إلّا أقربية ذي المزية إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها.
وأما الثالث : فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلّم إنّه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدوراً أو جهة ، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله ، كما مرّ آنفاً.
ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية فيه ، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك ، مع الوثوق بصدورهما ، لولا القطع به في الصدر الأوّل ، لقلة الوسائط ومعرفتها ، هذا.
مع ما في عدم بيان الامام ـ 7 ـ للكلية كي لا يحتاج السائل إلى
إعادة السؤال مراراً ، وما في أمره ـ 7 ـ بالإرجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة ، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة ، كما لا يخفى.
ثم إنّه بناءً على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة مالا يوجب الظن بذي المزية ولا أقربيته ، كبعض صفات الراوي مثل الأورعية أو الأفقهية ، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الأقربية ، كالتورع من الشبهات ، والجهد في العبادات ، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية ، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية ، بل إلى كلّ مزية ، ولو لم تكن بموجبة لأحدهما ، كما لا يخفى.
وتوهمّ أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ ، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعاً ، وإنما يضر فيما أُخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم يؤخذ في اعتبارٍ الأخبار صدوراً ولا ظهوراً ولا جهةً ذلك ، هذا مضافاً إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدوراً ، وإلاّ فلا يوجبه الظن بصدور أحدهما لإمكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما ، أو إرادته تقية ، كما لا يخفى.
نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته ، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك ، وأنّ كان موجباً لقوة مضمون ذيه ثبوتاً ، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية الظنية ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها ، إنّما هو الأقوى دلالة ، كما لا يخفى ، فافهم.