آموزش اصول فقه
دانلود الموجز آيت الله سبحاني – قسمت چهارم
الخامس: مفهوم العدد
إنّ العدد المأخوذ قيداً للموضوع يتصوّر ثبوتاً علي أقسام أربعة:
1. يُؤخذ علي نحو لا بشرط في جانبي الزيادة و النقيصة، کقوله سبحانه: (إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة/80) فالاستغفار لهم مادام کونهم منافقين لا يفيد قلّ أو کثر.
2. يؤخذ بشرط لا في کلا الجانبين، کأعداد الفرائض.
3. يُؤخذ بشرط لا في جانب النقيصة دون الزيادة، کما هو الحال في مسألة الکرّ حيث يجب أن يکون ثلاثة أشبار و نصف طولاً، و عرضاً و عمقاً ولا يکفي الناقص کما لا يضرّ الزائد.
4. عکس الصورة الثالثة بأن يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة دون النقيصة، کالفصل بين المصلّين في الجماعة، فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.
هذا التقسيم راجع إلي مقام الثبوت، و أمّا مقام الإثبات فالظاهر أو المنصرف إليه أنّه بصدد التحديد قلّة و کثرة فيدلّ علي المفهوم في جانب التحديد إلاّ إذا دلّ الدليل علي خلافه، مثل قوله: (الزّانِيةُ وَ الزّاني فَاجْلِدُوا کُلّ واحدٍ مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة) (النور/2) و ظاهر الآية التحديد في کلا الجانبين.
و ربما تشهد القرينة علي أنّه بصدد التحديد في جانب النقيصة دون الزيادة، کقوله سبحانه: (وَاستَشْهدوا شَهيدينَ مِنْ رِجالِکُمْ) (البقرة/282) . و مثله ما ورد في عدد الغسلات من إصابة البول و ملاقاة الخنزير.
و ربما ينعکس فيؤخذ التحديد في جانب الزيادة، ککون ما تراه المرأة من
الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.
کلّ ذلک يعلم بالقرينة و إلاّ فيحمل علي التحديد في کلا الجانبين: الزيادة و النقيصة.
تطبيقات
1. هل تکره قراءة أزيد من سبع آيات علي الجنب؟ قيل: نعم، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال: «ما بينه و بين سبع آيات
2. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة، وهي ثلاثة أيّام
3. يُستحبّ إرغام الأنف في حال السجود ولا يجب لمفهوم ما دلّ علي أنّ السجود علي سبعة أعظم أو أعضاء
4. لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة، لقوله عليه السلام : «لا تکون الخطبة و الجمعة و صلاة رکعتين علي أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة» فيکون مفهومه - لو قلنا بأنّ للعدد مفهوماً - انعقادها بالخمسة.
السادس: مفهوم اللقب
المقصود باللقب کلّ اسم - سواء کان مشتقاً أو جامداً - وقع موضوعاً للحکم کالفقير في قولهم: أطعم الفقير، و کالسارق و السارقة في قوله تعالي: (وَالسّارِق وَ السّارِقَة فاقْطَعُوا أَيديهما) (المائدة: 38) و معني مفهوم اللقب نفي الحکم عمّا لا يتناوله عموم الاسم، و بما أنّک عرفت عدم دلالة الوصف علي المفهوم، فعدم دلالة اللقب عليه أولي، بل غاية ما يفهم من اللقب عدم دلالة الکلام علي ثبوته في غير ما يشمله عموم الاسم و أمّا دلالته علي العدم فلا، فمثلاً إذا قلنا إنّ محمّداً رسول الله، فمفاده ثبوت الرسالة للنبي صلي الله عليه و آله وسلّم و لا يدلّ علي رسالة غيره نفياً و إثباتاً
تطبيق
روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلي الله عليه و آله وسلّم نهي أن يکفَّن الرجال في ثيات الحرير، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ علي جواز تکفين المرأة به و إلاّ فلا تمّ الکلام في المقصد الثالث والحمدلله ربّ العالمين
المقصد الرابع العموم و الخصوص
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في ألفاظ العموم.
الفصل الثاني: هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
الفصل الثالث: حجّية العام المخصص في الباقي.
الفصل الرابع: التمسک بالعام قبل الفحص عن المخصص.
الفصل الخامس: في تخصيص العام بالمفهوم.
الفصل السادس: في تخصيص الکتاب بخبر الواحد.
الفصل السابع: تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة.
الفصل الثامن: في النسخ و التخصيص.
تمهيد
تعريف العام: العام من المفاهيم الواضحة الغنية عن التعريف، ولکن عرّفه الأُصوليّون بتعاريف عديدة و ناقشوا فيها بعدم الانعکاس تارة و عدم الاطراد أُخري، و لنقتصر علي تعريف واحد و هو:
شمول الحکم لجميع أفراد مدخوله، و يقابله الخاص.
تقسيم العام: ينقسم العام إلي أقسام ثلاثة:
أ. العام الاستغراقي: و هو لحاظ کلّ فرد فرد من أفراد العام بحياله و استقلاله، و اللّفظ الموضوع له هو لفظ «کل».
ب. العام المجموعي: و هو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة، و اللّفظ الدالّ عليه هو لفظ «المجموع» کقولک: أکرم مجموع العلماء.
ج. العام البدلي: و هو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعينه، و اللّفظ الدالّ عليه لفظ «أيّ» کقولک: أطعم أيّ فقير شئت.
وعلي ذلک فالعام مع قطع النظر عن الحکم يلاحظ علي أقسام ثلاثة ولکلٍّ لفظ خاص يعرب عنه.
ولکن الأوفق بالنسبة إلي تعريف العام المذکور هو ما ربما يقال انّ التقسيم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحکم، فمثلاً.
العام الاستغراقي هو أن يکون الحکم شاملاً لکلّ فرد فرد، فيکون کلّ فرد وحده موضوعاً للحکم.
و العام المجموعي هو أن يکون الحکم ثابتاً للمجموع بما هو مجموع، فيکون المجموع موضوعاً واحداً.
و العام البدلي هو أن يکون الحکم لواحد من الأفراد علي البدل، فيکون فرد واحد علي البدل موضوعاً للحکم.
إذا عرفت ذلک، فيقع الکلام في فصول:
الفصل الأوّل ألفاظ العموم
لا شکّ انّ للعموم ألفاظاً دالّة عليه إمّا بالدلالة اللفظية الوضعية، أو بالإطلاق و بمقتضي مقدّمات الحکمة
أمّا الدالّ بالوضع عليه فألفاظ مفردة مثل: کلّ، جميع، تمام، أيّ، دائماً.
والألفاظ الأربعة الأُوَل تفيد العموم في الأفراد، و اللفظ الأخير يفيد العموم في الأزمان، فقولک: أکرم زيداً في يوم الجمعة دائماً، يفيد شمول الحکم لکلّ جمعة. و نظير «دائماً» لفظة «أبداً» قال سبحانه: (ولا أنْ تَنْکِحُوا أزْواجهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبداً (الأحزاب/54
إنّما الکلام في الألفاظ الّتي يستفاد منها العموم بمقتضي الإطلاق، و مقدّمات الحکمة و هي ثلاثة:
1. النکرة الواقعة في سياق النفي
المعروف انّ «لا» النافية الداخلة علي النکرة نحو: «لا رجل في الدار» تفيد العموم، لأنّها لنفي الجنس و هو لا ينعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد، أو بعبارة أُخري
يدلّ علي عموم السلب لجميع أفراد النکرة عقلاً لأنّ عدم الطبيعة إنّما يکون بعدم جميع أفرادها.
2. الجمع المحلّي باللاّم
من أدوات العموم الجمع المحلّي باللاّم کقوله سبحانه: (يا أيُُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَوفُوابالعُقُود) (المائدة/1) و قول القائل: جمع الأمير الصاغة.
3. المفرد المحلّي باللام
قد عدّ من ألفاظ العموم، المفرد المحلّي باللاّم، کقوله سبحانه: (وَالعََصرِ* إنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسر* إلاّ الّذينَ آمَنُوا) (العصر/3-1). و ذلک بدليل ورود الاستثناء عليه.
الفصل الثاني هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
إذا خُصَّ العام و أَُريد به الباقي فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال:
أ. انّه مجاز مطلقاً، و هو خيرة الشيخ الطوسي و المحقّق و العلاّمة الحلّي في أحد قوليه.
ب. انّه حقيقة مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخراساني و من تبعه.
ج. التفصيل بين التخصيص بمخصص متصل (و المراد منه ما إذا کان المخصص متصلاً بالکلام و جزءاً منه) کالشرط و الصفة و الاستثناء و الغاية فحقيقة، و بين التخصيص بمخصص منفصل (و المراد ما إذا کان منفصلاً ولا يعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز، و هو القول الثاني للعلاّمة اختاره في التهذيب.
و الحقّ انّه حقيقة سواء کان المخصص متصلاً أو منفصلاً.
أمّا الأوّل: أي إذا کان المخصص متصلاً بالعام، ففي مثل قولک: «أکرم کلّ عام عادل» الوصف مخصص متصل للعام، و هو «کلّ عالم» غير أنّ کلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة في معناها، فلفظة «کل» استعملت في استغراق المدخول سواء کان المدخول مطلقاً کالعالم، أو مقيداً کالعالم العادل، کما أنّ لفظة «عالم» مستعملة في معناها سواء کان عادلاً أو غير عادل، و مثله اللّفظ الثالث، أعني:
عادل، فالجميع مستعمل في معناه اللغوي من باب تعدّد الدال و المدلول.
فدلالة الجملة المذکورة علي إکرام خصوص العالم العادل، ليس من باب استعمال «العالم» في العالم العادل، لما قلنا من انّ کلّ لفظ استعمل في معناه بل هي من باب تعدد الدال و المدلول، و نتيجة دلالة کلّ لفظ علي معناه.
نعم لا ينعقد الظهور لکلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتکلّم عن کلّ قيد يتصل به، و لذلک لا ينعقد للکلام المذکور ظهور إلاّ في الخصوص.
و أمّا الثاني: أي المخصص المنفصل کما إذا قال المتکلّم: «أکرم العلماء» ثمّ قال في کلام مستقل: «لا تکرم العالم الفاسق»، فالتحقيق أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في العام.
و وجهه: أنّ للمتکلّم إرادتين:
الأُولي: الإرادة الاستعمالية و هو إطلاق اللّفظ و إرادة معناه، و يشترک فيه کلّ من يتکلم عن شعور و إرادة من غير فرق بين الهازل و الممتحِن و ذي الجدّ.
ثمّ إنّ له وراء تلک الإرادة إرادة أُخري، و هي ما يعبّر عنها بالإرادة الجدية، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في الأوامر الامتحانية و الصادرة عن هزل.
و أُخري تتعلّق الأُولي بنفس ما تعلّقت به الثانية بلا استثناء و تخصيص، کما في العام غير المخصص.
و ثالثة تتعلق الإرادة الجديدة ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في العام المخصص، و عند ذاک يشير إلي ذلک البعض بدليل مستقل. و يکشف المخصص عن تضيق الإرادة الجدية من رأس دون الإرادة الاستعمالية.
و علي ضوء ذلک يکفي للمقنِّن أن يلقي کلامه بصورة عامة، و يقول: أکرم
کلّ عالم، و يستعمل الجملة في معناها الحقيقي (من دون أن يستعملها في معني مضيق) ثم يشير بدليل مستقل إلي مالم تتعلّق به إرادته الجدية کالفاسق مثلاً.
و أکثر المخصصات الواردة في الشرع من هذا القبيل حيث نجد أنّه سبحانه يقول: (يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا الَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبا إنْ کُنْتُمْ مُؤْمنينَ) (البقرة/278). ثمّ يُرخَّص في السنّة الشريفة و يخصّص حرمة الربا بغير الوالد و والولد، و الزوج و الزوجة.
الفصل الثالث حجّية العام المخصَّص في الباقي
إذا ورد عام و تبعه التخصيص ثمّ شککنا في ورود تخصيص آخر عليه غير ما علم، فهل يکون العام حجّة فيما شک خروجه عنه أو لا؟ و هذا ما يعبّر عنه في الکتب الأُصولية بـ «هل العام المخصص حجّة في الباقي أو لا؟»: مثلاً إذا ورد النص بحرمة الربا، ثمّ علمنا بخروج الربابين الوالد والولد عن تحت العموم و شککنا في خروج سائر الأقربين کالأخ و الأُخت، فهل العام (حرمة الربا) حجّة في المشکوک أو لا؟
و المختار حجّيته في المشکوک لأنّ العام المخصَّص مستعمل في معناه الحقيقي بالإرادة الاستعمالية، و إن ورد عليه التخصيص فإنّما يخصص الإرادة الجدية، و إلاّ فالإرادة الاستعمالية باقية علي حالها لا تمس کرامتها.
و الأصل العقلائي هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما علم فيه عدم التطابق.
و هذه (أي حجّية العام المخصص في الباقي) هي الثمرة للفصل السابق في کون العام المخصص حقيقة في الباقي و ليس مجازاً.
الفصل الرابع التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصص
إنّ ديدَن العقلاء في المحاورات العرفية هو الإتيان بکلّ ما له دخل في کلامهم و مقاصدهم من دون فرق بين القضايا الجزئية أو الکلية، و لذا يتمسّک بظواهر کلامهم من دون أيِّ تربص.
و أمّا الخطابات القانونية التي ترجع إلي جَعْل القوانين و سَنِّ السُّنن سواء کانت دولية أو إقليمية، فقد جرت سيرة العقلاء علي خلاف ذلک، فتراهم يذکرون العام و المطلق في باب، و المخصص و المقيد في باب آخر، کما أنّهم يذکرون العموم و المطلق في زمان، و بعد فترة يذکرون المخصِّص و المقيِّد في زمان آخر.
و قد سلک التشريع الإسلامي هذا النحو فتجد ورود العموم في القرآن أو کلام النبي صلي الله عليه و آله و سلّم و المخصص و المقيد في کلام الأوصياء مثلاً و ما هذا شأنه لا يصحّ فيه عند العقلاء التمسک بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقيداته.
الفصل الخامس تخصيص العام بالمفهوم
إذا کان هناک دليل عام و دليل آخر له مفهوم، فهل يقدّم المفهوم علي العام أو لا؟
و إنّما عقدوا هذا البحث - مع اتّفاقهم علي تقديم المخصص علي العام - لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومية (و إن کانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقية (العموم)، و لأجل ذلک بحثوا في انّ المفهوم هل يقدم مع ضعفه علي العام أو لا؟ و يقع الکلام في مبحثين:
الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق.
الثاني: تخصيص العام بالمفهوم المخالف.
المبحث الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق
قد نقل الاتفاق علي جواز التخصيص بالمفهوم الموافق فمثلاً إذا قال: اضرب من في الدار، ثمّ قال: ولا تقل للوالدين أُف. فالدليل الثاني يدلّ علي حرمة ضرب الوالدين أيضاً إذا کانا في الدار فيخصص العام بهذا المفهوم.
المبحث الثاني: هل يخصص العام بالمفهوم المخالف؟
إذا ورد عام کقوله: «الماء کلّه طاهر» فهل يخصص هذا العام بمفهوم المخالف في قوله: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ينجسه شيء»، أم لا؟
فيه أقوال و التفصيل يطلب من الدراسات العليا و الظاهر أنّه إذا لم تکن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف علي الآخر يعود الکلام مجملاً، و أمّا إذا کان أحدهما أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر.
الفصل السادس تخصيص الکتاب بخبر الواحد
اتّفق الأُصوليّون علي جواز تخصيص الکتاب بالکتاب و تخصيصه بالخبر المتواتر.
واختلفوا في جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد علي أقوال ثلاثة:
القول الأوّل: عدم الجواز مطلقاً. و هو خيرة السيد المرتضي في «الذريعة»، و الشيخ الطوسي في «العدّة»، و المحقّق في «المعارج».
القول الثاني: الجواز مطلقاً، و هو خيرة المتأخّرين.
القول الثالث: التفصيل بين تخصيص الکتاب بمخصص قطعي قبل خبر الواحد فيجوز به أيضاً، و عدمه فلا يجوز به.
استدلّ المتأخّرون علي جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد بوجهين:
الوجه الأوّل: جريان سيرة الأصحاب علي العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الکتاب و احتمال أن يکون ذلک بواسطة القرائن المفيدة للعلم بعيد جدّاً، فمثلاً خصصت آية الميراث: (يُوصيکُمُ اللهُ فِي أَولادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن) (النساء/11) بالسنّة کقوله: لا ميراث للقاتل
و خصصت آية حلية النساء، أعني قوله: (أُحِلَّ لَکُمْ ما وراء ذلِکُمْ) (النساء/24) بما ورد في السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج علي عمّتها و خالتها
و خصصت آية حرمة الربا بما دلّ علي الجواز بين الولد و الوالد، و الزوج و الزوجة.
الوجه الثاني: إذا لم نقل بجواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرَّة إذ ما من حکم مروي بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الکتاب ولو بمثل عمومات الحلّ، ولا يخلو الوجه الثاني عن إغراق، لأنّ کثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة و الزکاة و الصوم و غيرها واردة في مقام أصل التشريع، و لأجل ذلک تحتاج إلي البيان، و خبر الواحد بعد ثبوت حجيته يکون مبيّناً لمجملاته و موضحاً لمبهماته ولا يُعدُّ مثل ذلک مخالفاً للقرآن و معارضاً له، بل يکون في خدمة القرآن و الغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلک.
ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به، لأنّ الکتاب قطعي الثبوت و خبر الواحد ظنّي الصدور، فکيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا کان النسخ کلياً لا جزئياً، أي رافعاً للحکم من رأسه.
الفصل السابع تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة
إذا تعقّب الاستثناء جملاً متعدّدة، کقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادة أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الفاسِقُون* إِلاّ الّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِکَ وَ أَصْلحُوا فانًّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم) (النور/5-4) ففي رجوع الاستثناء إلي الجميع أو إلي الجملة الأخيرة أقوال:
أ. ظهور الکلام في رجوعه إلي جميع الجمل، لأنّ تخصيصه بالأخيرة فقط بحاجة إلي دليل.
ب. ظهور الکلام في رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة لکونها أقرب.
ج. عدم ظهور الکلام في واحد منهما و إن کان رجوعه إلي الأخيرة متيقّناً علي کلّ حال، لکن الرجوع إليها شيء و ظهوره فيها شيء آخر.
لا شکّ في إمکان رجوع الاستثناء إلي خصوص الأخيرة أو الجميع، و إنّما الکلام في انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء، فالاستثناء کما يحتمل رجوعه إلي الأخيرة کذلک يحتمل رجوعه إلي الجميع، و التعيين بحاجة إلي دليل قاطع، و ما ذکر من الدلائل للأقوال الثلاثة لا يخرج عن کونها قرائن ظنية، غير مثبتة للظهور.
الفصل الثامن النسخ و التخصيص
النسخ في اللغة: هو الإزالة. و في الاصطلاح: رفع الحکم الشرعي بدليل شرعي متأخّر علي وجه لولاه لکان ثابتاً.
و بذلک علم أنّ النسخ تخصيص في الأزمان، أي مانع عن استمرار الحکم، لا عن أصل ثبوته و لنذکر مثالاً:
قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدَقَة ذلِکَ خَيرٌ لَکُمْ وَ أَطْهَر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ) (المجادلة/12) فرض الله سبحانه علي المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول أن يقدّموا قبله صدقة.
ثمّ لمّا نهُوا عن المناجاة حتي يتصدّقوا، ضنَّ کثير منهم من التصدق حتي کفُّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ما تصدّق.
ثمّ نسخت الآية بما بعدها، قال سبحانه: (ءَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدقاتٍ فَإِذْلَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْکُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وة أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة/13).
إنّ النسخ في القرآن الکريم نادر جدّاً، و لم نعثر علي النسخ في الکتاب
إلاّ في آيتين إحداهما ما عرفت والثانية قوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلي الحَولِ غَيْرَ إِخْراجٍ (البقرة/240
و اللاّم في الحول إشارة إلي الحول المعهود بين العرب قبل الإسلام حيث کانت النساء يعتددن إلي حول، و قد أمضاه القرآن کبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فيه لمصلحة هو أعلم بها.
ثمّ نسخت بقوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعة أَشْهُرٍ وَ عَشْراً) (البقرة/234.
و بذلک يعلم أنّه يشترط في النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة، ثمّ ورود الناسخ بعده و إلي هذا يشير کلام الأُصوليين حيث يقولون يشترط في النسخ حضور العمل.
إنّ النسخ في القوانين العرفية يلازم البداء أي ظهور ما خفي لهم من المصالح و المفاسد، و هذا بخلاف النسخ في الأحکام الشرعية، فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فالله سبحانه يعلم مبدأ الحکم و غايته غير أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحکم بلا غاية لکنّه في الواقع مغيّي.
فقد خرجنا بهذه النتيجة أنّ النسخ في الأحکام العرفية رفع للحکم واقعاً، و لکنه في الأحکام الإلهية دفع لها و بيان للأمد الذي کانت مغيّي به منذ تشريعها ولا مانع ما إظهار الحکم غير مغيّي، و هو في الواقع محدّد لمصلحة في نفس
الإظهار.
هذا هوالنسخ، و أمّا حدّ التخصيص، فهو إخراج فرد أو عنوان عن کونه محکوماً بحکم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدية، و إن شمله حسب الإرادة الاستعماليّة، فهو تخصيص في الأفراد لا في الأزمان مقابل النسخ الذي عرفت أنّه هو تخصيص فيها، و لأجل ذلک يشتط في التخصيص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام، و إلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصيص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح علي الحکيم، فلا محيص من وروده قبل العمل بالعام لو کان مخصِّصاً، نعم لو کان ناسخاً لحکم العام في مورده يجب تأخيره عن وقت حضور العمل بالعام.
تمّ الکلام في المقصد الرابع والحمدلله
المقصد الخامس في المطلق و المقيد و المجمل و المبين
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في تعريف المطلق و المقيّد.
الفصل الثاني: في ألفاظ المطلق.
الفصل الثالث: في أنّ المطلق بعد التقييد ليس مجازاً.
الفصل الرابع: في مقدمات الحکمة.
الفصل الخامس: في المطلق و المقيّد المتنافيين.
الفصل السادس: في المجمل و المبين و المحکم و المتشابه.
الفصل الأوّل تعريف المطلق
عرّف المطلق: بأنّه ما دلّ علي شائع في جنسه، و المقيّد علي خلافه.
و المراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ، و المراد من الشائع هو المتوفّر وجودُه من ذلک الجنس.
ثمّ إنّ ظاهر التعريف أنّ الإطلاق و التقييد عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحکم أو لا، فهنا لفظ مطلق، و لفظ مقيّد.
و لکن هذا النوع من البحث يناسب البحوث الأدبية، و الذي يهمّ الأُصولي الذي هو بصدد تأسيس قواعد تکون مقدّمة للاستنباط هو تعريف المطلق و المقيد بلحاظ تعلّق الحکم بالموضوع، فنقول:
المطلق: عبارة عن کون اللفظ بما له من المعني، تمامَ الموضوع للحکم، بلا لحاظ حيثية أُخري، فبما أنّه مرسل عن القيد في مقام الموضوعية للحکم فهو مطلق.
و إن شئت قلت: إنّ الإطلاق و التقييد وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحکم به، فلو کان اللفظ في مقام الموضوعية مرسلاً عن القيد و الحيثية الزائدة کان مطلقاً و إلاّ کان مقيّداً.
فالرقبة في «أعتق رقبة» مطلق لکونها تمام الموضوع للحکم و مرسلة عن
القيد في موضوعيّته، و تخالفه رقبة في قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهي مقيّدة بالإيمان لعدم کونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القيد.
و بذلک يظهر أنّه لا يشترط في المطلق أن يکون مفهوماً کليّاً، بل يمکن أن يکون جزئياً حقيقياً و مرسلاً عن التقيد بحالة خاصة، فإذا قال: أکرم زيداً فزيد مطلق، لأنّه تمام الموضوع للوجوب و مرسل عن القيد، بخلاف ما إذا قال: أکرم زيداً إذا سلّم، فهو مقيد بحالة خاصة، أعني: «إذا سلّم»، فإطلاق الکلي - في مقام الموضوعية للحکم - باعتبار الأفراد، و إطلاق الجزئي في ذلک المقام بالنسبة إلي الحالات.
و يترتب علي ما ذکرنا أُمور:
الأوّل: لا يشترط في المطلق أن يکون أمراً شائعاً في جنسه بل يجوز أن يکون جزئياً ذا أحوال، فلو کان موضوعاًً للحکم بلا قيد فهو مطلق و إلاّ فهو مقيّد فمثلاً إذا شُکّ في جواز الطواف بالبيت مع خلو البيت عن الستر، فيصح له التمسّک بقوله سبحانه: (وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيق) (الحج/29) إذ لو کان الستر شرطاً للصحّة کان عليه البيان إذا کانت الآية في ذلک المقام.
الثاني: إنّ الإطلاق و التقييد من الأُمور الإضافية، فيمکن أن يکون الموضوع مطلقاً من جهة ومقيداً من جهة أُخري، کما إذا قال: أطعم إنساناً جالساً في المسجد، فهو مطلق من جهة کون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم، و مقيّد من جهة تقييد مکانه بالمسجد.
الثالث: يظهر من التعريف المشهور أنّ الإطلاق من المداليل اللفظية کالعموم، والحقّ أنّ الإطلاق من المداليل العقلية، فإذا کان المتکلّم حکيماً غير ناقض لغرضه وجعل الشيء بلا قيد موضوعاً للحکم کشف ذلک انّه تمام
الموضوع و إلاّ لکان ناقضاً لغرضه و هو ينافي کونه حکيماً.
الرابع: إذا کانت حقيقة الإطلاق دائرة مدار کون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن يکون الموضوع اسم الجنس أو النکرة أو معرفاً باللام، فنحن في غني عن إفاضة القول في حقائق تلک الأسماء.
نعم من فسّر الإطلاق بالشيوع أو نظيره فلا محيص له عن التکلّم في حقائق تلک الأسماء، و حيث ذکرت في الکتب الأُصولية نشير إليها علي سبيل الإجمال.
الفصل الثاني ألفاظ المطلق
1. اسم الجنس
کان الرأي السائد بين الأُصوليّين قبل سلطان العلماء انّ المطلق کاسم الجنس موضوع للماهية بقيد الإطلاق و السريان و الشيوع علي نحو کان الشيوع بين الأفراد و الحالات من مداليل اللّفظ، فالرقبة في (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة علي وجه يکون الإطلاق قيداً، نظير المفعول المطلق.
ولکن صار الرأي السائد بعد تحقيق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهية المعرّاة عن کلّ قيد حتي الإطلاق نظير مطلق المفعول.
و علي ذلک فأسماء الأجناس کأسد و إنسان و بقر کلّها موضوعة للماهية المعرّاة عن کلّ قيد.
2. علم الجنس
إنّ في لغة العرب أسماءً ترادفُ أسماءَ الأجناس، لکن تُعامل معها معاملةَ المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فيعامل معها معاملة النکرة، فهناک فرق بين ثعلب و ثعالة، و أسد و أُسامة، حيث يقع الثاني منهما مبتدأً و ذا حال بخلاف الأوّلين، و هذا ما دعاهم إلي تسمية ذلک بعلم الجنس.
3. المعرّف بالألف واللام
اللام تنقسم إلي: لام الجنس و لام الاستغراق، و لام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلي: استغراق الأفراد، و استغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلي: ذهني، و ذکريّ، و حضوري.
فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلي بلام الجنس مثل قولهم: التمرة خير من جرادة.
4. النکرة
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ النکرة هل وضعت للفرد المردّد بين الأفراد، أو موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة؟
و التحقيق هو الثاني، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين، فاسم الجنس يدلّ علي الطبيعة و التنوين يدلّ علي الوحدة.
و أمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بين الأفراد، فغير تام، إذ لازم ذلک أن لا يصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقاً للحکم، لأنّ الفرد الممتثل به، فرد متعيّن مع أنّ المأُمور به هو الفرد المردّد، فإذا قال: جئني بإنسان، فأيّ إنسان أتيت به فهو هو و ليس مردّداً بينه و بين غيره.
الفصل الثالث في أنّ تقييد المطلق لا يوجب المجازية
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية أو لا علي أقوال، نذکر منها قولين:
الأوّل: انّه يستلزم المجازية مطلقاً سواء کان القيد متصلاً أم منفصلاً، و هو المشهور قبل سلطان العلماء.
الثاني: إنّه انّه لا يستلزم المجازية مطلقاً، و هو خيرة سلطان العلماء.
حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشيوع و السريان، و قد قيل في تعريفه ما دلّ علي شائع في جنسه و بالتقييد يزول الشمول و السريان فينتج المجازية.
و حجّة القول الثاني: انّ المطلق موضوع للحقيقة المعرّاة من کلّ قيد حتي الشيوع و السريان، فالتقييد لا يحدث أيّ تصرف في المطلق.
و الحقّ انّ التقييد لا يوجب مجازية المطلق، سواء کان المطلق موضوعاً للشائع، أو لنفس الماهية المعراة عن کلّ قيد کما مرّ من أنّ تخصيص العام بالتخصيص المتصل والمنفصل، لا يستلزم مجازيته.
لأنّ کل لفظ مستعمل في معناه، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع في جنسه، فهو مستعمل في معناه، و تقييده بقيد لا يوجب استعماله في غير ما وضع له، لما عرفت من تعدّد الدالّ و المدلول، فلاحظ.
الفصل الرابع مقدّمات الحکمة
الاحتجاج بالإطلاق لا يتم إلاّ بعد تمامية مقدّمات الحکمة الحاکمة علي أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحکم، و هذا هو السرّ لحاجة المطلق إلي تلک المقدّمات.
فنقول: إنّ مقدّمات الحکمة عبارة عن:
1. کون المتکلّم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الإهمال و لا الإجمال.
2. انتفاء ما يوجب التقييد. و إن شئت قلت: عدم نصب القرينة علي القيد.
3. انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.
أمّا المقدّمة الأُولي: فالمتکلّم قد يکون في مقام بيان أصل الحکم من دون نظر إلي الخصوصيات و الشرائط، مثل قوله تعالي: (أُحِلَّ لَکُمُ الطَيِّبات) (المائدة/5) و قوله: (أُحِلَ لَکُمْ صيدُ البَحْرِ) (المائدة/96) و قول الفقيه: الغنم حلال، فالجميع في مقام بيان أصل الحکم لا في مقام بيان خصوصياته، فلا يصحّ التمسک بأمثال هذه الإطلاقات عند الشکّ في الجزئية و الشرطية.
وقد يکون في مقام بيان کلّ ما له داخل في الموضوع من الأجزاء و الشرائط، فإذا سکت عن بيان جزئية شيء أو شرطيته نستکشف انّه غير دخيل في الموضوع.
و علي ذلک إنّما يصحّ التمسّک في نفي الجزئية و الشرطية بالإطلاقات الواردة لبيان الموضوع بأجزائه و شرائطه دون ما کان في مقام الإجمال و الإهمال، فإن ترک بيان ما هو الدخيل في الغرض قبيح في الأوّل دون الثاني.
مثل قوله سبحانه: (فَکُلُوا مِمّا أَمْسَکْنَ عَلَيْکُمْ وَ اذْکُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ سَريعُ الحِساب) (المائدة/4).
فالآية بصدد بيان أنّ ما أمسکه الکلب بحکم المذکّي إذا ذکر اسم الله عليه و ليس بميتة، فهي في مقام بيان حليّة ما يصيدة الکلب و إن مات الصيد قبل أن يصل إليه الصائد.
و هل يصحّ التمسّک بإطلاق قوله: (فَکُلُوا) علي طهارة موضع عضّه وجواز أکله بدون غسله و تطهيره، أو لا؟
الظاهر، لا لأنّ الآية بصدد بيان حلّيته و حرمته لا طهارته و نجاسته، فقوله تعالي: (فکلوا) لرفع شبهة حرمة الأکل، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة، لا بصدد بيان طهارته من أجل عضّه.
وأمّا المقدّمة الثانية أي انتفاء ما يوجب التقييد، و المراد منه عدم وجود قرينة علي التقييد لا متصلة ولا منفصلة، لأنّه مع القرينة المتصلة لا ينعقد للکلام ظهور إلاّ في المقيد و مع المنفصلة و إن کان ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق ولکن يسقط عن الحجّية بالقرينة المنفصلة.
و أمّا المقدّمة الثالثة، أي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب و المحاورة، فمرجعه إلي أنّ وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة بمنزلة القرينة الحالية المتصلة، فلا ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق.
تتميم: الأصل في کلّ متکلّم أن يکون في مقام البيان، فلو شکّ أنّ المتکلّم
في مقام بيان تمام مراده، فالأصل کونه کذلک إلاّ أن يدلّ دليل علي خلافه کما أنّه يمکن أن يکون للکلام جهات مختلفة، کأن يکون وارداً في مقام البيان من جهة و في مقام الإهمال من جهة أُخري، کما في الآية السابقة، فقد کان في مقام البيان من جهة الحلية لا في مقام بيان طهارة موضع العض.
الفصل الخامس المطلق و المقيد المتنافيان
إذا ورد مطلق کقول الطبيب: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً، وورد مقيّد مناف له کقوله في کلام آخر: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً حلواً. فهذان الحکمان متنافيان، لأنّ الأوّل يدلّ علي کفاية شرب مطلق اللبن بخلاف الثاني فإنّه يخصه بالحلو منه.
فعلاج هذا التنافي يحصل بأحد أمرين:
أ. التصرف في المطلق بحمله علي المقيد فيصير اللازم هو شرب اللبن الحلو.
ب. التصرف في المقيد مثل حمله علي الاستحباب.
و الرائج في الخطابات الشرعية هو حمل المطلق علي المقيد لا حمل المقيد علي الاستحباب، و قد عرفت وجهه من أنّ التشريع تمّ تدريجاً و مثله يقتضي جعل الثاني متمماً للأوّل.
ثمّ إنّ إحراز التنافي فرع إحراز وحدة الحکم، و إلاّ فلا يحصل التنافي کما إذا اختلف سبب الحکمين مثلاً إذا قال: إذا استيقظت من النوم فاشرب لبناً حلواً، و إذا أکلت فاشرب لبناً، فالحکمان غير متنافيين لاختلافهما في السبب.
فعلي الفقيه في مقام التقييد إحراز وحدة الحکم عن طريق إحراز وحدة السبب و غيرها، و إلاّ فلا داعي لحمل المطلق علي المقيد لتعدّد الحکمين.
ادامه نوشته
الخامس: مفهوم العدد
إنّ العدد المأخوذ قيداً للموضوع يتصوّر ثبوتاً علي أقسام أربعة:
1. يُؤخذ علي نحو لا بشرط في جانبي الزيادة و النقيصة، کقوله سبحانه: (إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة/80) فالاستغفار لهم مادام کونهم منافقين لا يفيد قلّ أو کثر.
2. يؤخذ بشرط لا في کلا الجانبين، کأعداد الفرائض.
3. يُؤخذ بشرط لا في جانب النقيصة دون الزيادة، کما هو الحال في مسألة الکرّ حيث يجب أن يکون ثلاثة أشبار و نصف طولاً، و عرضاً و عمقاً ولا يکفي الناقص کما لا يضرّ الزائد.
4. عکس الصورة الثالثة بأن يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة دون النقيصة، کالفصل بين المصلّين في الجماعة، فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.
هذا التقسيم راجع إلي مقام الثبوت، و أمّا مقام الإثبات فالظاهر أو المنصرف إليه أنّه بصدد التحديد قلّة و کثرة فيدلّ علي المفهوم في جانب التحديد إلاّ إذا دلّ الدليل علي خلافه، مثل قوله: (الزّانِيةُ وَ الزّاني فَاجْلِدُوا کُلّ واحدٍ مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة) (النور/2) و ظاهر الآية التحديد في کلا الجانبين.
و ربما تشهد القرينة علي أنّه بصدد التحديد في جانب النقيصة دون الزيادة، کقوله سبحانه: (وَاستَشْهدوا شَهيدينَ مِنْ رِجالِکُمْ) (البقرة/282) . و مثله ما ورد في عدد الغسلات من إصابة البول و ملاقاة الخنزير.
و ربما ينعکس فيؤخذ التحديد في جانب الزيادة، ککون ما تراه المرأة من
الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.
کلّ ذلک يعلم بالقرينة و إلاّ فيحمل علي التحديد في کلا الجانبين: الزيادة و النقيصة.
تطبيقات
1. هل تکره قراءة أزيد من سبع آيات علي الجنب؟ قيل: نعم، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال: «ما بينه و بين سبع آيات
2. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة، وهي ثلاثة أيّام
3. يُستحبّ إرغام الأنف في حال السجود ولا يجب لمفهوم ما دلّ علي أنّ السجود علي سبعة أعظم أو أعضاء
4. لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة، لقوله عليه السلام : «لا تکون الخطبة و الجمعة و صلاة رکعتين علي أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة» فيکون مفهومه - لو قلنا بأنّ للعدد مفهوماً - انعقادها بالخمسة.
السادس: مفهوم اللقب
المقصود باللقب کلّ اسم - سواء کان مشتقاً أو جامداً - وقع موضوعاً للحکم کالفقير في قولهم: أطعم الفقير، و کالسارق و السارقة في قوله تعالي: (وَالسّارِق وَ السّارِقَة فاقْطَعُوا أَيديهما) (المائدة: 38) و معني مفهوم اللقب نفي الحکم عمّا لا يتناوله عموم الاسم، و بما أنّک عرفت عدم دلالة الوصف علي المفهوم، فعدم دلالة اللقب عليه أولي، بل غاية ما يفهم من اللقب عدم دلالة الکلام علي ثبوته في غير ما يشمله عموم الاسم و أمّا دلالته علي العدم فلا، فمثلاً إذا قلنا إنّ محمّداً رسول الله، فمفاده ثبوت الرسالة للنبي صلي الله عليه و آله وسلّم و لا يدلّ علي رسالة غيره نفياً و إثباتاً
تطبيق
روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلي الله عليه و آله وسلّم نهي أن يکفَّن الرجال في ثيات الحرير، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ علي جواز تکفين المرأة به و إلاّ فلا تمّ الکلام في المقصد الثالث والحمدلله ربّ العالمين
المقصد الرابع العموم و الخصوص
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في ألفاظ العموم.
الفصل الثاني: هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
الفصل الثالث: حجّية العام المخصص في الباقي.
الفصل الرابع: التمسک بالعام قبل الفحص عن المخصص.
الفصل الخامس: في تخصيص العام بالمفهوم.
الفصل السادس: في تخصيص الکتاب بخبر الواحد.
الفصل السابع: تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة.
الفصل الثامن: في النسخ و التخصيص.
تمهيد
تعريف العام: العام من المفاهيم الواضحة الغنية عن التعريف، ولکن عرّفه الأُصوليّون بتعاريف عديدة و ناقشوا فيها بعدم الانعکاس تارة و عدم الاطراد أُخري، و لنقتصر علي تعريف واحد و هو:
شمول الحکم لجميع أفراد مدخوله، و يقابله الخاص.
تقسيم العام: ينقسم العام إلي أقسام ثلاثة:
أ. العام الاستغراقي: و هو لحاظ کلّ فرد فرد من أفراد العام بحياله و استقلاله، و اللّفظ الموضوع له هو لفظ «کل».
ب. العام المجموعي: و هو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة، و اللّفظ الدالّ عليه هو لفظ «المجموع» کقولک: أکرم مجموع العلماء.
ج. العام البدلي: و هو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعينه، و اللّفظ الدالّ عليه لفظ «أيّ» کقولک: أطعم أيّ فقير شئت.
وعلي ذلک فالعام مع قطع النظر عن الحکم يلاحظ علي أقسام ثلاثة ولکلٍّ لفظ خاص يعرب عنه.
ولکن الأوفق بالنسبة إلي تعريف العام المذکور هو ما ربما يقال انّ التقسيم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحکم، فمثلاً.
العام الاستغراقي هو أن يکون الحکم شاملاً لکلّ فرد فرد، فيکون کلّ فرد وحده موضوعاً للحکم.
و العام المجموعي هو أن يکون الحکم ثابتاً للمجموع بما هو مجموع، فيکون المجموع موضوعاً واحداً.
و العام البدلي هو أن يکون الحکم لواحد من الأفراد علي البدل، فيکون فرد واحد علي البدل موضوعاً للحکم.
إذا عرفت ذلک، فيقع الکلام في فصول:
الفصل الأوّل ألفاظ العموم
لا شکّ انّ للعموم ألفاظاً دالّة عليه إمّا بالدلالة اللفظية الوضعية، أو بالإطلاق و بمقتضي مقدّمات الحکمة
أمّا الدالّ بالوضع عليه فألفاظ مفردة مثل: کلّ، جميع، تمام، أيّ، دائماً.
والألفاظ الأربعة الأُوَل تفيد العموم في الأفراد، و اللفظ الأخير يفيد العموم في الأزمان، فقولک: أکرم زيداً في يوم الجمعة دائماً، يفيد شمول الحکم لکلّ جمعة. و نظير «دائماً» لفظة «أبداً» قال سبحانه: (ولا أنْ تَنْکِحُوا أزْواجهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبداً (الأحزاب/54
إنّما الکلام في الألفاظ الّتي يستفاد منها العموم بمقتضي الإطلاق، و مقدّمات الحکمة و هي ثلاثة:
1. النکرة الواقعة في سياق النفي
المعروف انّ «لا» النافية الداخلة علي النکرة نحو: «لا رجل في الدار» تفيد العموم، لأنّها لنفي الجنس و هو لا ينعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد، أو بعبارة أُخري
يدلّ علي عموم السلب لجميع أفراد النکرة عقلاً لأنّ عدم الطبيعة إنّما يکون بعدم جميع أفرادها.
2. الجمع المحلّي باللاّم
من أدوات العموم الجمع المحلّي باللاّم کقوله سبحانه: (يا أيُُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَوفُوابالعُقُود) (المائدة/1) و قول القائل: جمع الأمير الصاغة.
3. المفرد المحلّي باللام
قد عدّ من ألفاظ العموم، المفرد المحلّي باللاّم، کقوله سبحانه: (وَالعََصرِ* إنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسر* إلاّ الّذينَ آمَنُوا) (العصر/3-1). و ذلک بدليل ورود الاستثناء عليه.
الفصل الثاني هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
إذا خُصَّ العام و أَُريد به الباقي فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال:
أ. انّه مجاز مطلقاً، و هو خيرة الشيخ الطوسي و المحقّق و العلاّمة الحلّي في أحد قوليه.
ب. انّه حقيقة مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخراساني و من تبعه.
ج. التفصيل بين التخصيص بمخصص متصل (و المراد منه ما إذا کان المخصص متصلاً بالکلام و جزءاً منه) کالشرط و الصفة و الاستثناء و الغاية فحقيقة، و بين التخصيص بمخصص منفصل (و المراد ما إذا کان منفصلاً ولا يعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز، و هو القول الثاني للعلاّمة اختاره في التهذيب.
و الحقّ انّه حقيقة سواء کان المخصص متصلاً أو منفصلاً.
أمّا الأوّل: أي إذا کان المخصص متصلاً بالعام، ففي مثل قولک: «أکرم کلّ عام عادل» الوصف مخصص متصل للعام، و هو «کلّ عالم» غير أنّ کلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة في معناها، فلفظة «کل» استعملت في استغراق المدخول سواء کان المدخول مطلقاً کالعالم، أو مقيداً کالعالم العادل، کما أنّ لفظة «عالم» مستعملة في معناها سواء کان عادلاً أو غير عادل، و مثله اللّفظ الثالث، أعني:
عادل، فالجميع مستعمل في معناه اللغوي من باب تعدّد الدال و المدلول.
فدلالة الجملة المذکورة علي إکرام خصوص العالم العادل، ليس من باب استعمال «العالم» في العالم العادل، لما قلنا من انّ کلّ لفظ استعمل في معناه بل هي من باب تعدد الدال و المدلول، و نتيجة دلالة کلّ لفظ علي معناه.
نعم لا ينعقد الظهور لکلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتکلّم عن کلّ قيد يتصل به، و لذلک لا ينعقد للکلام المذکور ظهور إلاّ في الخصوص.
و أمّا الثاني: أي المخصص المنفصل کما إذا قال المتکلّم: «أکرم العلماء» ثمّ قال في کلام مستقل: «لا تکرم العالم الفاسق»، فالتحقيق أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في العام.
و وجهه: أنّ للمتکلّم إرادتين:
الأُولي: الإرادة الاستعمالية و هو إطلاق اللّفظ و إرادة معناه، و يشترک فيه کلّ من يتکلم عن شعور و إرادة من غير فرق بين الهازل و الممتحِن و ذي الجدّ.
ثمّ إنّ له وراء تلک الإرادة إرادة أُخري، و هي ما يعبّر عنها بالإرادة الجدية، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في الأوامر الامتحانية و الصادرة عن هزل.
و أُخري تتعلّق الأُولي بنفس ما تعلّقت به الثانية بلا استثناء و تخصيص، کما في العام غير المخصص.
و ثالثة تتعلق الإرادة الجديدة ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في العام المخصص، و عند ذاک يشير إلي ذلک البعض بدليل مستقل. و يکشف المخصص عن تضيق الإرادة الجدية من رأس دون الإرادة الاستعمالية.
و علي ضوء ذلک يکفي للمقنِّن أن يلقي کلامه بصورة عامة، و يقول: أکرم
کلّ عالم، و يستعمل الجملة في معناها الحقيقي (من دون أن يستعملها في معني مضيق) ثم يشير بدليل مستقل إلي مالم تتعلّق به إرادته الجدية کالفاسق مثلاً.
و أکثر المخصصات الواردة في الشرع من هذا القبيل حيث نجد أنّه سبحانه يقول: (يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا الَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبا إنْ کُنْتُمْ مُؤْمنينَ) (البقرة/278). ثمّ يُرخَّص في السنّة الشريفة و يخصّص حرمة الربا بغير الوالد و والولد، و الزوج و الزوجة.
الفصل الثالث حجّية العام المخصَّص في الباقي
إذا ورد عام و تبعه التخصيص ثمّ شککنا في ورود تخصيص آخر عليه غير ما علم، فهل يکون العام حجّة فيما شک خروجه عنه أو لا؟ و هذا ما يعبّر عنه في الکتب الأُصولية بـ «هل العام المخصص حجّة في الباقي أو لا؟»: مثلاً إذا ورد النص بحرمة الربا، ثمّ علمنا بخروج الربابين الوالد والولد عن تحت العموم و شککنا في خروج سائر الأقربين کالأخ و الأُخت، فهل العام (حرمة الربا) حجّة في المشکوک أو لا؟
و المختار حجّيته في المشکوک لأنّ العام المخصَّص مستعمل في معناه الحقيقي بالإرادة الاستعمالية، و إن ورد عليه التخصيص فإنّما يخصص الإرادة الجدية، و إلاّ فالإرادة الاستعمالية باقية علي حالها لا تمس کرامتها.
و الأصل العقلائي هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما علم فيه عدم التطابق.
و هذه (أي حجّية العام المخصص في الباقي) هي الثمرة للفصل السابق في کون العام المخصص حقيقة في الباقي و ليس مجازاً.
الفصل الرابع التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصص
إنّ ديدَن العقلاء في المحاورات العرفية هو الإتيان بکلّ ما له دخل في کلامهم و مقاصدهم من دون فرق بين القضايا الجزئية أو الکلية، و لذا يتمسّک بظواهر کلامهم من دون أيِّ تربص.
و أمّا الخطابات القانونية التي ترجع إلي جَعْل القوانين و سَنِّ السُّنن سواء کانت دولية أو إقليمية، فقد جرت سيرة العقلاء علي خلاف ذلک، فتراهم يذکرون العام و المطلق في باب، و المخصص و المقيد في باب آخر، کما أنّهم يذکرون العموم و المطلق في زمان، و بعد فترة يذکرون المخصِّص و المقيِّد في زمان آخر.
و قد سلک التشريع الإسلامي هذا النحو فتجد ورود العموم في القرآن أو کلام النبي صلي الله عليه و آله و سلّم و المخصص و المقيد في کلام الأوصياء مثلاً و ما هذا شأنه لا يصحّ فيه عند العقلاء التمسک بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقيداته.
الفصل الخامس تخصيص العام بالمفهوم
إذا کان هناک دليل عام و دليل آخر له مفهوم، فهل يقدّم المفهوم علي العام أو لا؟
و إنّما عقدوا هذا البحث - مع اتّفاقهم علي تقديم المخصص علي العام - لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومية (و إن کانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقية (العموم)، و لأجل ذلک بحثوا في انّ المفهوم هل يقدم مع ضعفه علي العام أو لا؟ و يقع الکلام في مبحثين:
الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق.
الثاني: تخصيص العام بالمفهوم المخالف.
المبحث الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق
قد نقل الاتفاق علي جواز التخصيص بالمفهوم الموافق فمثلاً إذا قال: اضرب من في الدار، ثمّ قال: ولا تقل للوالدين أُف. فالدليل الثاني يدلّ علي حرمة ضرب الوالدين أيضاً إذا کانا في الدار فيخصص العام بهذا المفهوم.
المبحث الثاني: هل يخصص العام بالمفهوم المخالف؟
إذا ورد عام کقوله: «الماء کلّه طاهر» فهل يخصص هذا العام بمفهوم المخالف في قوله: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ينجسه شيء»، أم لا؟
فيه أقوال و التفصيل يطلب من الدراسات العليا و الظاهر أنّه إذا لم تکن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف علي الآخر يعود الکلام مجملاً، و أمّا إذا کان أحدهما أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر.
الفصل السادس تخصيص الکتاب بخبر الواحد
اتّفق الأُصوليّون علي جواز تخصيص الکتاب بالکتاب و تخصيصه بالخبر المتواتر.
واختلفوا في جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد علي أقوال ثلاثة:
القول الأوّل: عدم الجواز مطلقاً. و هو خيرة السيد المرتضي في «الذريعة»، و الشيخ الطوسي في «العدّة»، و المحقّق في «المعارج».
القول الثاني: الجواز مطلقاً، و هو خيرة المتأخّرين.
القول الثالث: التفصيل بين تخصيص الکتاب بمخصص قطعي قبل خبر الواحد فيجوز به أيضاً، و عدمه فلا يجوز به.
استدلّ المتأخّرون علي جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد بوجهين:
الوجه الأوّل: جريان سيرة الأصحاب علي العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الکتاب و احتمال أن يکون ذلک بواسطة القرائن المفيدة للعلم بعيد جدّاً، فمثلاً خصصت آية الميراث: (يُوصيکُمُ اللهُ فِي أَولادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن) (النساء/11) بالسنّة کقوله: لا ميراث للقاتل
و خصصت آية حلية النساء، أعني قوله: (أُحِلَّ لَکُمْ ما وراء ذلِکُمْ) (النساء/24) بما ورد في السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج علي عمّتها و خالتها
و خصصت آية حرمة الربا بما دلّ علي الجواز بين الولد و الوالد، و الزوج و الزوجة.
الوجه الثاني: إذا لم نقل بجواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرَّة إذ ما من حکم مروي بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الکتاب ولو بمثل عمومات الحلّ، ولا يخلو الوجه الثاني عن إغراق، لأنّ کثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة و الزکاة و الصوم و غيرها واردة في مقام أصل التشريع، و لأجل ذلک تحتاج إلي البيان، و خبر الواحد بعد ثبوت حجيته يکون مبيّناً لمجملاته و موضحاً لمبهماته ولا يُعدُّ مثل ذلک مخالفاً للقرآن و معارضاً له، بل يکون في خدمة القرآن و الغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلک.
ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به، لأنّ الکتاب قطعي الثبوت و خبر الواحد ظنّي الصدور، فکيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا کان النسخ کلياً لا جزئياً، أي رافعاً للحکم من رأسه.
الفصل السابع تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة
إذا تعقّب الاستثناء جملاً متعدّدة، کقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادة أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الفاسِقُون* إِلاّ الّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِکَ وَ أَصْلحُوا فانًّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم) (النور/5-4) ففي رجوع الاستثناء إلي الجميع أو إلي الجملة الأخيرة أقوال:
أ. ظهور الکلام في رجوعه إلي جميع الجمل، لأنّ تخصيصه بالأخيرة فقط بحاجة إلي دليل.
ب. ظهور الکلام في رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة لکونها أقرب.
ج. عدم ظهور الکلام في واحد منهما و إن کان رجوعه إلي الأخيرة متيقّناً علي کلّ حال، لکن الرجوع إليها شيء و ظهوره فيها شيء آخر.
لا شکّ في إمکان رجوع الاستثناء إلي خصوص الأخيرة أو الجميع، و إنّما الکلام في انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء، فالاستثناء کما يحتمل رجوعه إلي الأخيرة کذلک يحتمل رجوعه إلي الجميع، و التعيين بحاجة إلي دليل قاطع، و ما ذکر من الدلائل للأقوال الثلاثة لا يخرج عن کونها قرائن ظنية، غير مثبتة للظهور.
الفصل الثامن النسخ و التخصيص
النسخ في اللغة: هو الإزالة. و في الاصطلاح: رفع الحکم الشرعي بدليل شرعي متأخّر علي وجه لولاه لکان ثابتاً.
و بذلک علم أنّ النسخ تخصيص في الأزمان، أي مانع عن استمرار الحکم، لا عن أصل ثبوته و لنذکر مثالاً:
قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدَقَة ذلِکَ خَيرٌ لَکُمْ وَ أَطْهَر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ) (المجادلة/12) فرض الله سبحانه علي المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول أن يقدّموا قبله صدقة.
ثمّ لمّا نهُوا عن المناجاة حتي يتصدّقوا، ضنَّ کثير منهم من التصدق حتي کفُّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ما تصدّق.
ثمّ نسخت الآية بما بعدها، قال سبحانه: (ءَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدقاتٍ فَإِذْلَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْکُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وة أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة/13).
إنّ النسخ في القرآن الکريم نادر جدّاً، و لم نعثر علي النسخ في الکتاب
إلاّ في آيتين إحداهما ما عرفت والثانية قوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلي الحَولِ غَيْرَ إِخْراجٍ (البقرة/240
و اللاّم في الحول إشارة إلي الحول المعهود بين العرب قبل الإسلام حيث کانت النساء يعتددن إلي حول، و قد أمضاه القرآن کبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فيه لمصلحة هو أعلم بها.
ثمّ نسخت بقوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعة أَشْهُرٍ وَ عَشْراً) (البقرة/234.
و بذلک يعلم أنّه يشترط في النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة، ثمّ ورود الناسخ بعده و إلي هذا يشير کلام الأُصوليين حيث يقولون يشترط في النسخ حضور العمل.
إنّ النسخ في القوانين العرفية يلازم البداء أي ظهور ما خفي لهم من المصالح و المفاسد، و هذا بخلاف النسخ في الأحکام الشرعية، فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فالله سبحانه يعلم مبدأ الحکم و غايته غير أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحکم بلا غاية لکنّه في الواقع مغيّي.
فقد خرجنا بهذه النتيجة أنّ النسخ في الأحکام العرفية رفع للحکم واقعاً، و لکنه في الأحکام الإلهية دفع لها و بيان للأمد الذي کانت مغيّي به منذ تشريعها ولا مانع ما إظهار الحکم غير مغيّي، و هو في الواقع محدّد لمصلحة في نفس
الإظهار.
هذا هوالنسخ، و أمّا حدّ التخصيص، فهو إخراج فرد أو عنوان عن کونه محکوماً بحکم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدية، و إن شمله حسب الإرادة الاستعماليّة، فهو تخصيص في الأفراد لا في الأزمان مقابل النسخ الذي عرفت أنّه هو تخصيص فيها، و لأجل ذلک يشتط في التخصيص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام، و إلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصيص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح علي الحکيم، فلا محيص من وروده قبل العمل بالعام لو کان مخصِّصاً، نعم لو کان ناسخاً لحکم العام في مورده يجب تأخيره عن وقت حضور العمل بالعام.
تمّ الکلام في المقصد الرابع والحمدلله
المقصد الخامس في المطلق و المقيد و المجمل و المبين
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في تعريف المطلق و المقيّد.
الفصل الثاني: في ألفاظ المطلق.
الفصل الثالث: في أنّ المطلق بعد التقييد ليس مجازاً.
الفصل الرابع: في مقدمات الحکمة.
الفصل الخامس: في المطلق و المقيّد المتنافيين.
الفصل السادس: في المجمل و المبين و المحکم و المتشابه.
الفصل الأوّل تعريف المطلق
عرّف المطلق: بأنّه ما دلّ علي شائع في جنسه، و المقيّد علي خلافه.
و المراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ، و المراد من الشائع هو المتوفّر وجودُه من ذلک الجنس.
ثمّ إنّ ظاهر التعريف أنّ الإطلاق و التقييد عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحکم أو لا، فهنا لفظ مطلق، و لفظ مقيّد.
و لکن هذا النوع من البحث يناسب البحوث الأدبية، و الذي يهمّ الأُصولي الذي هو بصدد تأسيس قواعد تکون مقدّمة للاستنباط هو تعريف المطلق و المقيد بلحاظ تعلّق الحکم بالموضوع، فنقول:
المطلق: عبارة عن کون اللفظ بما له من المعني، تمامَ الموضوع للحکم، بلا لحاظ حيثية أُخري، فبما أنّه مرسل عن القيد في مقام الموضوعية للحکم فهو مطلق.
و إن شئت قلت: إنّ الإطلاق و التقييد وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحکم به، فلو کان اللفظ في مقام الموضوعية مرسلاً عن القيد و الحيثية الزائدة کان مطلقاً و إلاّ کان مقيّداً.
فالرقبة في «أعتق رقبة» مطلق لکونها تمام الموضوع للحکم و مرسلة عن
القيد في موضوعيّته، و تخالفه رقبة في قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهي مقيّدة بالإيمان لعدم کونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القيد.
و بذلک يظهر أنّه لا يشترط في المطلق أن يکون مفهوماً کليّاً، بل يمکن أن يکون جزئياً حقيقياً و مرسلاً عن التقيد بحالة خاصة، فإذا قال: أکرم زيداً فزيد مطلق، لأنّه تمام الموضوع للوجوب و مرسل عن القيد، بخلاف ما إذا قال: أکرم زيداً إذا سلّم، فهو مقيد بحالة خاصة، أعني: «إذا سلّم»، فإطلاق الکلي - في مقام الموضوعية للحکم - باعتبار الأفراد، و إطلاق الجزئي في ذلک المقام بالنسبة إلي الحالات.
و يترتب علي ما ذکرنا أُمور:
الأوّل: لا يشترط في المطلق أن يکون أمراً شائعاً في جنسه بل يجوز أن يکون جزئياً ذا أحوال، فلو کان موضوعاًً للحکم بلا قيد فهو مطلق و إلاّ فهو مقيّد فمثلاً إذا شُکّ في جواز الطواف بالبيت مع خلو البيت عن الستر، فيصح له التمسّک بقوله سبحانه: (وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيق) (الحج/29) إذ لو کان الستر شرطاً للصحّة کان عليه البيان إذا کانت الآية في ذلک المقام.
الثاني: إنّ الإطلاق و التقييد من الأُمور الإضافية، فيمکن أن يکون الموضوع مطلقاً من جهة ومقيداً من جهة أُخري، کما إذا قال: أطعم إنساناً جالساً في المسجد، فهو مطلق من جهة کون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم، و مقيّد من جهة تقييد مکانه بالمسجد.
الثالث: يظهر من التعريف المشهور أنّ الإطلاق من المداليل اللفظية کالعموم، والحقّ أنّ الإطلاق من المداليل العقلية، فإذا کان المتکلّم حکيماً غير ناقض لغرضه وجعل الشيء بلا قيد موضوعاً للحکم کشف ذلک انّه تمام
الموضوع و إلاّ لکان ناقضاً لغرضه و هو ينافي کونه حکيماً.
الرابع: إذا کانت حقيقة الإطلاق دائرة مدار کون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن يکون الموضوع اسم الجنس أو النکرة أو معرفاً باللام، فنحن في غني عن إفاضة القول في حقائق تلک الأسماء.
نعم من فسّر الإطلاق بالشيوع أو نظيره فلا محيص له عن التکلّم في حقائق تلک الأسماء، و حيث ذکرت في الکتب الأُصولية نشير إليها علي سبيل الإجمال.
الفصل الثاني ألفاظ المطلق
1. اسم الجنس
کان الرأي السائد بين الأُصوليّين قبل سلطان العلماء انّ المطلق کاسم الجنس موضوع للماهية بقيد الإطلاق و السريان و الشيوع علي نحو کان الشيوع بين الأفراد و الحالات من مداليل اللّفظ، فالرقبة في (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة علي وجه يکون الإطلاق قيداً، نظير المفعول المطلق.
ولکن صار الرأي السائد بعد تحقيق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهية المعرّاة عن کلّ قيد حتي الإطلاق نظير مطلق المفعول.
و علي ذلک فأسماء الأجناس کأسد و إنسان و بقر کلّها موضوعة للماهية المعرّاة عن کلّ قيد.
2. علم الجنس
إنّ في لغة العرب أسماءً ترادفُ أسماءَ الأجناس، لکن تُعامل معها معاملةَ المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فيعامل معها معاملة النکرة، فهناک فرق بين ثعلب و ثعالة، و أسد و أُسامة، حيث يقع الثاني منهما مبتدأً و ذا حال بخلاف الأوّلين، و هذا ما دعاهم إلي تسمية ذلک بعلم الجنس.
3. المعرّف بالألف واللام
اللام تنقسم إلي: لام الجنس و لام الاستغراق، و لام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلي: استغراق الأفراد، و استغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلي: ذهني، و ذکريّ، و حضوري.
فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلي بلام الجنس مثل قولهم: التمرة خير من جرادة.
4. النکرة
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ النکرة هل وضعت للفرد المردّد بين الأفراد، أو موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة؟
و التحقيق هو الثاني، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين، فاسم الجنس يدلّ علي الطبيعة و التنوين يدلّ علي الوحدة.
و أمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بين الأفراد، فغير تام، إذ لازم ذلک أن لا يصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقاً للحکم، لأنّ الفرد الممتثل به، فرد متعيّن مع أنّ المأُمور به هو الفرد المردّد، فإذا قال: جئني بإنسان، فأيّ إنسان أتيت به فهو هو و ليس مردّداً بينه و بين غيره.
الفصل الثالث في أنّ تقييد المطلق لا يوجب المجازية
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية أو لا علي أقوال، نذکر منها قولين:
الأوّل: انّه يستلزم المجازية مطلقاً سواء کان القيد متصلاً أم منفصلاً، و هو المشهور قبل سلطان العلماء.
الثاني: إنّه انّه لا يستلزم المجازية مطلقاً، و هو خيرة سلطان العلماء.
حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشيوع و السريان، و قد قيل في تعريفه ما دلّ علي شائع في جنسه و بالتقييد يزول الشمول و السريان فينتج المجازية.
و حجّة القول الثاني: انّ المطلق موضوع للحقيقة المعرّاة من کلّ قيد حتي الشيوع و السريان، فالتقييد لا يحدث أيّ تصرف في المطلق.
و الحقّ انّ التقييد لا يوجب مجازية المطلق، سواء کان المطلق موضوعاً للشائع، أو لنفس الماهية المعراة عن کلّ قيد کما مرّ من أنّ تخصيص العام بالتخصيص المتصل والمنفصل، لا يستلزم مجازيته.
لأنّ کل لفظ مستعمل في معناه، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع في جنسه، فهو مستعمل في معناه، و تقييده بقيد لا يوجب استعماله في غير ما وضع له، لما عرفت من تعدّد الدالّ و المدلول، فلاحظ.
الفصل الرابع مقدّمات الحکمة
الاحتجاج بالإطلاق لا يتم إلاّ بعد تمامية مقدّمات الحکمة الحاکمة علي أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحکم، و هذا هو السرّ لحاجة المطلق إلي تلک المقدّمات.
فنقول: إنّ مقدّمات الحکمة عبارة عن:
1. کون المتکلّم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الإهمال و لا الإجمال.
2. انتفاء ما يوجب التقييد. و إن شئت قلت: عدم نصب القرينة علي القيد.
3. انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.
أمّا المقدّمة الأُولي: فالمتکلّم قد يکون في مقام بيان أصل الحکم من دون نظر إلي الخصوصيات و الشرائط، مثل قوله تعالي: (أُحِلَّ لَکُمُ الطَيِّبات) (المائدة/5) و قوله: (أُحِلَ لَکُمْ صيدُ البَحْرِ) (المائدة/96) و قول الفقيه: الغنم حلال، فالجميع في مقام بيان أصل الحکم لا في مقام بيان خصوصياته، فلا يصحّ التمسک بأمثال هذه الإطلاقات عند الشکّ في الجزئية و الشرطية.
وقد يکون في مقام بيان کلّ ما له داخل في الموضوع من الأجزاء و الشرائط، فإذا سکت عن بيان جزئية شيء أو شرطيته نستکشف انّه غير دخيل في الموضوع.
و علي ذلک إنّما يصحّ التمسّک في نفي الجزئية و الشرطية بالإطلاقات الواردة لبيان الموضوع بأجزائه و شرائطه دون ما کان في مقام الإجمال و الإهمال، فإن ترک بيان ما هو الدخيل في الغرض قبيح في الأوّل دون الثاني.
مثل قوله سبحانه: (فَکُلُوا مِمّا أَمْسَکْنَ عَلَيْکُمْ وَ اذْکُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ سَريعُ الحِساب) (المائدة/4).
فالآية بصدد بيان أنّ ما أمسکه الکلب بحکم المذکّي إذا ذکر اسم الله عليه و ليس بميتة، فهي في مقام بيان حليّة ما يصيدة الکلب و إن مات الصيد قبل أن يصل إليه الصائد.
و هل يصحّ التمسّک بإطلاق قوله: (فَکُلُوا) علي طهارة موضع عضّه وجواز أکله بدون غسله و تطهيره، أو لا؟
الظاهر، لا لأنّ الآية بصدد بيان حلّيته و حرمته لا طهارته و نجاسته، فقوله تعالي: (فکلوا) لرفع شبهة حرمة الأکل، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة، لا بصدد بيان طهارته من أجل عضّه.
وأمّا المقدّمة الثانية أي انتفاء ما يوجب التقييد، و المراد منه عدم وجود قرينة علي التقييد لا متصلة ولا منفصلة، لأنّه مع القرينة المتصلة لا ينعقد للکلام ظهور إلاّ في المقيد و مع المنفصلة و إن کان ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق ولکن يسقط عن الحجّية بالقرينة المنفصلة.
و أمّا المقدّمة الثالثة، أي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب و المحاورة، فمرجعه إلي أنّ وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة بمنزلة القرينة الحالية المتصلة، فلا ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق.
تتميم: الأصل في کلّ متکلّم أن يکون في مقام البيان، فلو شکّ أنّ المتکلّم
في مقام بيان تمام مراده، فالأصل کونه کذلک إلاّ أن يدلّ دليل علي خلافه کما أنّه يمکن أن يکون للکلام جهات مختلفة، کأن يکون وارداً في مقام البيان من جهة و في مقام الإهمال من جهة أُخري، کما في الآية السابقة، فقد کان في مقام البيان من جهة الحلية لا في مقام بيان طهارة موضع العض.
الفصل الخامس المطلق و المقيد المتنافيان
إذا ورد مطلق کقول الطبيب: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً، وورد مقيّد مناف له کقوله في کلام آخر: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً حلواً. فهذان الحکمان متنافيان، لأنّ الأوّل يدلّ علي کفاية شرب مطلق اللبن بخلاف الثاني فإنّه يخصه بالحلو منه.
فعلاج هذا التنافي يحصل بأحد أمرين:
أ. التصرف في المطلق بحمله علي المقيد فيصير اللازم هو شرب اللبن الحلو.
ب. التصرف في المقيد مثل حمله علي الاستحباب.
و الرائج في الخطابات الشرعية هو حمل المطلق علي المقيد لا حمل المقيد علي الاستحباب، و قد عرفت وجهه من أنّ التشريع تمّ تدريجاً و مثله يقتضي جعل الثاني متمماً للأوّل.
ثمّ إنّ إحراز التنافي فرع إحراز وحدة الحکم، و إلاّ فلا يحصل التنافي کما إذا اختلف سبب الحکمين مثلاً إذا قال: إذا استيقظت من النوم فاشرب لبناً حلواً، و إذا أکلت فاشرب لبناً، فالحکمان غير متنافيين لاختلافهما في السبب.
فعلي الفقيه في مقام التقييد إحراز وحدة الحکم عن طريق إحراز وحدة السبب و غيرها، و إلاّ فلا داعي لحمل المطلق علي المقيد لتعدّد الحکمين.
+ نوشته شده در ساعت توسط اموزش اصول فقه
|