آموزش اصول فقه

دانلود الموجز آيت الله سبحاني – قسمت چهارم

الخامس: مفهوم العدد
إنّ العدد المأخوذ قيداً للموضوع يتصوّر ثبوتاً علي أقسام أربعة:
1. يُؤخذ علي نحو لا بشرط في جانبي الزيادة و النقيصة، کقوله سبحانه: (إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (التوبة/80) فالاستغفار لهم مادام کونهم منافقين لا يفيد قلّ أو کثر.
2. يؤخذ بشرط لا في کلا الجانبين، کأعداد الفرائض.
3. يُؤخذ بشرط لا في جانب النقيصة دون الزيادة، کما هو الحال في مسألة الکرّ حيث يجب أن يکون ثلاثة أشبار و نصف طولاً، و عرضاً و عمقاً ولا يکفي الناقص کما لا يضرّ الزائد.
4. عکس الصورة الثالثة بأن يؤخذ بشرط لا في جانب الزيادة دون النقيصة، کالفصل بين المصلّين في الجماعة، فيجوز الفصل بالخطوة دون الزائد.
هذا التقسيم راجع إلي مقام الثبوت، و أمّا مقام الإثبات فالظاهر أو المنصرف إليه أنّه بصدد التحديد قلّة و کثرة فيدلّ علي المفهوم في جانب التحديد إلاّ إذا دلّ الدليل علي خلافه، مثل قوله: (الزّانِيةُ وَ الزّاني فَاجْلِدُوا کُلّ واحدٍ مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة) (النور/2) و ظاهر الآية التحديد في کلا الجانبين.
و ربما تشهد القرينة علي أنّه بصدد التحديد في جانب النقيصة دون الزيادة، کقوله سبحانه: (وَاستَشْهدوا شَهيدينَ مِنْ رِجالِکُمْ) (البقرة/282) . و مثله ما ورد في عدد الغسلات من إصابة البول و ملاقاة الخنزير.
و ربما ينعکس فيؤخذ التحديد في جانب الزيادة، ککون ما تراه المرأة من

الدم حيضاً في عشرة أيّام بشرط أن لا تتجاوز العشرة.
کلّ ذلک يعلم بالقرينة و إلاّ فيحمل علي التحديد في کلا الجانبين: الزيادة و النقيصة.
تطبيقات
1. هل تکره قراءة أزيد من سبع آيات علي الجنب؟ قيل: نعم، لمفهوم موثقة سماعة سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال: «ما بينه و بين سبع آيات
2. يسقط خيار الحيوان بانقضاء المدة، وهي ثلاثة أيّام
3. يُستحبّ إرغام الأنف في حال السجود ولا يجب لمفهوم ما دلّ علي أنّ السجود علي سبعة أعظم أو أعضاء
4. لا تنعقد الجمعة بأقل من خمسة، لقوله عليه السلام : «لا تکون الخطبة و الجمعة و صلاة رکعتين علي أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة» فيکون مفهومه - لو قلنا بأنّ للعدد مفهوماً - انعقادها بالخمسة.



السادس: مفهوم اللقب
المقصود باللقب کلّ اسم - سواء کان مشتقاً أو جامداً - وقع موضوعاً للحکم کالفقير في قولهم: أطعم الفقير، و کالسارق و السارقة في قوله تعالي: (وَالسّارِق وَ السّارِقَة فاقْطَعُوا أَيديهما) (المائدة: 38) و معني مفهوم اللقب نفي الحکم عمّا لا يتناوله عموم الاسم، و بما أنّک عرفت عدم دلالة الوصف علي المفهوم، فعدم دلالة اللقب عليه أولي، بل غاية ما يفهم من اللقب عدم دلالة الکلام علي ثبوته في غير ما يشمله عموم الاسم و أمّا دلالته علي العدم فلا، فمثلاً إذا قلنا إنّ محمّداً رسول الله، فمفاده ثبوت الرسالة للنبي صلي الله عليه و آله وسلّم و لا يدلّ علي رسالة غيره نفياً و إثباتاً
تطبيق
روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ رسول الله صلي الله عليه و آله وسلّم نهي أن يکفَّن الرجال في ثيات الحرير، فلو قلنا بمفهوم اللقب لدلّ علي جواز تکفين المرأة به و إلاّ فلا تمّ الکلام في المقصد الثالث والحمدلله ربّ العالمين

المقصد الرابع العموم و الخصوص
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في ألفاظ العموم.
الفصل الثاني: هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
الفصل الثالث: حجّية العام المخصص في الباقي.
الفصل الرابع: التمسک بالعام قبل الفحص عن المخصص.
الفصل الخامس: في تخصيص العام بالمفهوم.
الفصل السادس: في تخصيص الکتاب بخبر الواحد.
الفصل السابع: تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة.
الفصل الثامن: في النسخ و التخصيص.


تمهيد
تعريف العام: العام من المفاهيم الواضحة الغنية عن التعريف، ولکن عرّفه الأُصوليّون بتعاريف عديدة و ناقشوا فيها بعدم الانعکاس تارة و عدم الاطراد أُخري، و لنقتصر علي تعريف واحد و هو:
شمول الحکم لجميع أفراد مدخوله، و يقابله الخاص.
تقسيم العام: ينقسم العام إلي أقسام ثلاثة:
أ. العام الاستغراقي: و هو لحاظ کلّ فرد فرد من أفراد العام بحياله و استقلاله، و اللّفظ الموضوع له هو لفظ «کل».
ب. العام المجموعي: و هو لحاظ الأفراد بصورة مجتمعة، و اللّفظ الدالّ عليه هو لفظ «المجموع» کقولک: أکرم مجموع العلماء.
ج. العام البدلي: و هو لحاظ فرد من أفراد العام لا بعينه، و اللّفظ الدالّ عليه لفظ «أيّ» کقولک: أطعم أيّ فقير شئت.
وعلي ذلک فالعام مع قطع النظر عن الحکم يلاحظ علي أقسام ثلاثة ولکلٍّ لفظ خاص يعرب عنه.
ولکن الأوفق بالنسبة إلي تعريف العام المذکور هو ما ربما يقال انّ التقسيم إنّما هو بلحاظ تعلّق الحکم، فمثلاً.
العام الاستغراقي هو أن يکون الحکم شاملاً لکلّ فرد فرد، فيکون کلّ فرد وحده موضوعاً للحکم.
و العام المجموعي هو أن يکون الحکم ثابتاً للمجموع بما هو مجموع، فيکون المجموع موضوعاً واحداً.
و العام البدلي هو أن يکون الحکم لواحد من الأفراد علي البدل، فيکون فرد واحد علي البدل موضوعاً للحکم.
إذا عرفت ذلک، فيقع الکلام في فصول:


الفصل الأوّل ألفاظ العموم
لا شکّ انّ للعموم ألفاظاً دالّة عليه إمّا بالدلالة اللفظية الوضعية، أو بالإطلاق و بمقتضي مقدّمات الحکمة
أمّا الدالّ بالوضع عليه فألفاظ مفردة مثل: کلّ، جميع، تمام، أيّ، دائماً.
والألفاظ الأربعة الأُوَل تفيد العموم في الأفراد، و اللفظ الأخير يفيد العموم في الأزمان، فقولک: أکرم زيداً في يوم الجمعة دائماً، يفيد شمول الحکم لکلّ جمعة. و نظير «دائماً» لفظة «أبداً» قال سبحانه: (ولا أنْ تَنْکِحُوا أزْواجهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبداً (الأحزاب/54
إنّما الکلام في الألفاظ الّتي يستفاد منها العموم بمقتضي الإطلاق، و مقدّمات الحکمة و هي ثلاثة:
1. النکرة الواقعة في سياق النفي
المعروف انّ «لا» النافية الداخلة علي النکرة نحو: «لا رجل في الدار» تفيد العموم، لأنّها لنفي الجنس و هو لا ينعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد، أو بعبارة أُخري

يدلّ علي عموم السلب لجميع أفراد النکرة عقلاً لأنّ عدم الطبيعة إنّما يکون بعدم جميع أفرادها.
2. الجمع المحلّي باللاّم
من أدوات العموم الجمع المحلّي باللاّم کقوله سبحانه: (يا أيُُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَوفُوابالعُقُود) (المائدة/1) و قول القائل: جمع الأمير الصاغة.
3. المفرد المحلّي باللام
قد عدّ من ألفاظ العموم، المفرد المحلّي باللاّم، کقوله سبحانه: (وَالعََصرِ* إنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسر* إلاّ الّذينَ آمَنُوا) (العصر/3-1). و ذلک بدليل ورود الاستثناء عليه.


الفصل الثاني هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟
إذا خُصَّ العام و أَُريد به الباقي فهل هو مجاز أو لا؟ فهنا أقوال:
أ. انّه مجاز مطلقاً، و هو خيرة الشيخ الطوسي و المحقّق و العلاّمة الحلّي في أحد قوليه.
ب. انّه حقيقة مطلقاً، و هو خيرة المحقّق الخراساني و من تبعه.
ج. التفصيل بين التخصيص بمخصص متصل (و المراد منه ما إذا کان المخصص متصلاً بالکلام و جزءاً منه) کالشرط و الصفة و الاستثناء و الغاية فحقيقة، و بين التخصيص بمخصص منفصل (و المراد ما إذا کان منفصلاً ولا يعدّ جزء منه) من سمع أو عقل فمجاز، و هو القول الثاني للعلاّمة اختاره في التهذيب.
و الحقّ انّه حقيقة سواء کان المخصص متصلاً أو منفصلاً.
أمّا الأوّل: أي إذا کان المخصص متصلاً بالعام، ففي مثل قولک: «أکرم کلّ عام عادل» الوصف مخصص متصل للعام، و هو «کلّ عالم» غير أنّ کلّ لفظة من هذه الجملة مستعملة في معناها، فلفظة «کل» استعملت في استغراق المدخول سواء کان المدخول مطلقاً کالعالم، أو مقيداً کالعالم العادل، کما أنّ لفظة «عالم» مستعملة في معناها سواء کان عادلاً أو غير عادل، و مثله اللّفظ الثالث، أعني:



عادل، فالجميع مستعمل في معناه اللغوي من باب تعدّد الدال و المدلول.
فدلالة الجملة المذکورة علي إکرام خصوص العالم العادل، ليس من باب استعمال «العالم» في العالم العادل، لما قلنا من انّ کلّ لفظ استعمل في معناه بل هي من باب تعدد الدال و المدلول، و نتيجة دلالة کلّ لفظ علي معناه.
نعم لا ينعقد الظهور لکلّ واحد من هذه الألفاظ إلاّ بعد فراغ المتکلّم عن کلّ قيد يتصل به، و لذلک لا ينعقد للکلام المذکور ظهور إلاّ في الخصوص.
و أمّا الثاني: أي المخصص المنفصل کما إذا قال المتکلّم: «أکرم العلماء» ثمّ قال في کلام مستقل: «لا تکرم العالم الفاسق»، فالتحقيق أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في العام.
و وجهه: أنّ للمتکلّم إرادتين:
الأُولي: الإرادة الاستعمالية و هو إطلاق اللّفظ و إرادة معناه، و يشترک فيه کلّ من يتکلم عن شعور و إرادة من غير فرق بين الهازل و الممتحِن و ذي الجدّ.
ثمّ إنّ له وراء تلک الإرادة إرادة أُخري، و هي ما يعبّر عنها بالإرادة الجدية، فتارة لا تتعلّق الإرادة الجدية بنفس ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في الأوامر الامتحانية و الصادرة عن هزل.
و أُخري تتعلّق الأُولي بنفس ما تعلّقت به الثانية بلا استثناء و تخصيص، کما في العام غير المخصص.
و ثالثة تتعلق الإرادة الجديدة ببعض ما تعلّقت به الإرادة الاستعمالية، کما في العام المخصص، و عند ذاک يشير إلي ذلک البعض بدليل مستقل. و يکشف المخصص عن تضيق الإرادة الجدية من رأس دون الإرادة الاستعمالية.
و علي ضوء ذلک يکفي للمقنِّن أن يلقي کلامه بصورة عامة، و يقول: أکرم


کلّ عالم، و يستعمل الجملة في معناها الحقيقي (من دون أن يستعملها في معني مضيق) ثم يشير بدليل مستقل إلي مالم تتعلّق به إرادته الجدية کالفاسق مثلاً.
و أکثر المخصصات الواردة في الشرع من هذا القبيل حيث نجد أنّه سبحانه يقول: (يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا الَّقُوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبا إنْ کُنْتُمْ مُؤْمنينَ) (البقرة/278). ثمّ يُرخَّص في السنّة الشريفة و يخصّص حرمة الربا بغير الوالد و والولد، و الزوج و الزوجة.

الفصل الثالث حجّية العام المخصَّص في الباقي
إذا ورد عام و تبعه التخصيص ثمّ شککنا في ورود تخصيص آخر عليه غير ما علم، فهل يکون العام حجّة فيما شک خروجه عنه أو لا؟ و هذا ما يعبّر عنه في الکتب الأُصولية بـ «هل العام المخصص حجّة في الباقي أو لا؟»: مثلاً إذا ورد النص بحرمة الربا، ثمّ علمنا بخروج الربابين الوالد والولد عن تحت العموم و شککنا في خروج سائر الأقربين کالأخ و الأُخت، فهل العام (حرمة الربا) حجّة في المشکوک أو لا؟
و المختار حجّيته في المشکوک لأنّ العام المخصَّص مستعمل في معناه الحقيقي بالإرادة الاستعمالية، و إن ورد عليه التخصيص فإنّما يخصص الإرادة الجدية، و إلاّ فالإرادة الاستعمالية باقية علي حالها لا تمس کرامتها.
و الأصل العقلائي هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية إلاّ ما علم فيه عدم التطابق.
و هذه (أي حجّية العام المخصص في الباقي) هي الثمرة للفصل السابق في کون العام المخصص حقيقة في الباقي و ليس مجازاً.


الفصل الرابع التمسّک بالعام قبل الفحص عن المخصص
إنّ ديدَن العقلاء في المحاورات العرفية هو الإتيان بکلّ ما له دخل في کلامهم و مقاصدهم من دون فرق بين القضايا الجزئية أو الکلية، و لذا يتمسّک بظواهر کلامهم من دون أيِّ تربص.
و أمّا الخطابات القانونية التي ترجع إلي جَعْل القوانين و سَنِّ السُّنن سواء کانت دولية أو إقليمية، فقد جرت سيرة العقلاء علي خلاف ذلک، فتراهم يذکرون العام و المطلق في باب، و المخصص و المقيد في باب آخر، کما أنّهم يذکرون العموم و المطلق في زمان، و بعد فترة يذکرون المخصِّص و المقيِّد في زمان آخر.
و قد سلک التشريع الإسلامي هذا النحو فتجد ورود العموم في القرآن أو کلام النبي صلي الله عليه و آله و سلّم و المخصص و المقيد في کلام الأوصياء مثلاً و ما هذا شأنه لا يصحّ فيه عند العقلاء التمسک بالعموم قبل الفحص عن مخصصاته أو بالمطلق قبل الفحص عن مقيداته.

الفصل الخامس تخصيص العام بالمفهوم
إذا کان هناک دليل عام و دليل آخر له مفهوم، فهل يقدّم المفهوم علي العام أو لا؟
و إنّما عقدوا هذا البحث - مع اتّفاقهم علي تقديم المخصص علي العام - لأجل تصوّر أنّ الدلالة المفهومية (و إن کانت أخص) أضعف من الدلالة المنطوقية (العموم)، و لأجل ذلک بحثوا في انّ المفهوم هل يقدم مع ضعفه علي العام أو لا؟ و يقع الکلام في مبحثين:
الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق.
الثاني: تخصيص العام بالمفهوم المخالف.
المبحث الأوّل: تخصيص العام بالمفهوم الموافق
قد نقل الاتفاق علي جواز التخصيص بالمفهوم الموافق فمثلاً إذا قال: اضرب من في الدار، ثمّ قال: ولا تقل للوالدين أُف. فالدليل الثاني يدلّ علي حرمة ضرب الوالدين أيضاً إذا کانا في الدار فيخصص العام بهذا المفهوم.


المبحث الثاني: هل يخصص العام بالمفهوم المخالف؟
إذا ورد عام کقوله: «الماء کلّه طاهر» فهل يخصص هذا العام بمفهوم المخالف في قوله: «إذا کان الماء قدر کرّ لم ينجسه شيء»، أم لا؟
فيه أقوال و التفصيل يطلب من الدراسات العليا و الظاهر أنّه إذا لم تکن قوّة لأحد الدليلين في نظر العرف علي الآخر يعود الکلام مجملاً، و أمّا إذا کان أحدهما أظهر من الآخر فيقدّم الأظهر.
الفصل السادس تخصيص الکتاب بخبر الواحد
اتّفق الأُصوليّون علي جواز تخصيص الکتاب بالکتاب و تخصيصه بالخبر المتواتر.
واختلفوا في جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد علي أقوال ثلاثة:
القول الأوّل: عدم الجواز مطلقاً. و هو خيرة السيد المرتضي في «الذريعة»، و الشيخ الطوسي في «العدّة»، و المحقّق في «المعارج».
القول الثاني: الجواز مطلقاً، و هو خيرة المتأخّرين.
القول الثالث: التفصيل بين تخصيص الکتاب بمخصص قطعي قبل خبر الواحد فيجوز به أيضاً، و عدمه فلا يجوز به.
استدلّ المتأخّرون علي جواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد بوجهين:

الوجه الأوّل: جريان سيرة الأصحاب علي العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الکتاب و احتمال أن يکون ذلک بواسطة القرائن المفيدة للعلم بعيد جدّاً، فمثلاً خصصت آية الميراث: (يُوصيکُمُ اللهُ فِي أَولادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن) (النساء/11) بالسنّة کقوله: لا ميراث للقاتل
و خصصت آية حلية النساء، أعني قوله: (أُحِلَّ لَکُمْ ما وراء ذلِکُمْ) (النساء/24) بما ورد في السنّة من أنّ المرأة لا تزوّج علي عمّتها و خالتها
و خصصت آية حرمة الربا بما دلّ علي الجواز بين الولد و الوالد، و الزوج و الزوجة.
الوجه الثاني: إذا لم نقل بجواز تخصيص الکتاب بخبر الواحد لزم إلغاء الخبر بالمرَّة إذ ما من حکم مروي بخبر الواحد إلاّ بخلافه عموم الکتاب ولو بمثل عمومات الحلّ، ولا يخلو الوجه الثاني عن إغراق، لأنّ کثيراً من الآيات الواردة حول الصلاة و الزکاة و الصوم و غيرها واردة في مقام أصل التشريع، و لأجل ذلک تحتاج إلي البيان، و خبر الواحد بعد ثبوت حجيته يکون مبيّناً لمجملاته و موضحاً لمبهماته ولا يُعدُّ مثل ذلک مخالفاً للقرآن و معارضاً له، بل يکون في خدمة القرآن و الغاية المهمة من وراء حجّية خبر الواحد هو ذلک.
ثمّ لو قلنا بجواز تخصيص القرآن بخبر الواحد لا نجيز نسخه به، لأنّ الکتاب قطعي الثبوت و خبر الواحد ظنّي الصدور، فکيف يسوغ نسخ القطعي بالظنّي خصوصاً إذا کان النسخ کلياً لا جزئياً، أي رافعاً للحکم من رأسه.


الفصل السابع تعقيب الاستثناء للجمل المتعدّدة
إذا تعقّب الاستثناء جملاً متعدّدة، کقوله سبحانه: (وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانينَ جَلْدَة وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادة أَبَداً وَ أُولئِکَ هُمُ الفاسِقُون* إِلاّ الّذينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِکَ وَ أَصْلحُوا فانًّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم) (النور/5-4) ففي رجوع الاستثناء إلي الجميع أو إلي الجملة الأخيرة أقوال:
أ. ظهور الکلام في رجوعه إلي جميع الجمل، لأنّ تخصيصه بالأخيرة فقط بحاجة إلي دليل.
ب. ظهور الکلام في رجوع الاستثناء إلي الجملة الأخيرة لکونها أقرب.
ج. عدم ظهور الکلام في واحد منهما و إن کان رجوعه إلي الأخيرة متيقّناً علي کلّ حال، لکن الرجوع إليها شيء و ظهوره فيها شيء آخر.
لا شکّ في إمکان رجوع الاستثناء إلي خصوص الأخيرة أو الجميع، و إنّما الکلام في انعقاد الظهور لواحد منهما عند العقلاء، فالاستثناء کما يحتمل رجوعه إلي الأخيرة کذلک يحتمل رجوعه إلي الجميع، و التعيين بحاجة إلي دليل قاطع، و ما ذکر من الدلائل للأقوال الثلاثة لا يخرج عن کونها قرائن ظنية، غير مثبتة للظهور.


الفصل الثامن النسخ و التخصيص
النسخ في اللغة: هو الإزالة. و في الاصطلاح: رفع الحکم الشرعي بدليل شرعي متأخّر علي وجه لولاه لکان ثابتاً.
و بذلک علم أنّ النسخ تخصيص في الأزمان، أي مانع عن استمرار الحکم، لا عن أصل ثبوته و لنذکر مثالاً:
قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدَقَة ذلِکَ خَيرٌ لَکُمْ وَ أَطْهَر فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيمٌ) (المجادلة/12) فرض الله سبحانه علي المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول أن يقدّموا قبله صدقة.
ثمّ لمّا نهُوا عن المناجاة حتي يتصدّقوا، ضنَّ کثير منهم من التصدق حتي کفُّوا عن المسألة فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ما تصدّق.
ثمّ نسخت الآية بما بعدها، قال سبحانه: (ءَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجواکُمْ صَدقاتٍ فَإِذْلَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْکُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وة أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللهُ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة/13).
إنّ النسخ في القرآن الکريم نادر جدّاً، و لم نعثر علي النسخ في الکتاب


إلاّ في آيتين إحداهما ما عرفت والثانية قوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلي الحَولِ غَيْرَ إِخْراجٍ (البقرة/240
و اللاّم في الحول إشارة إلي الحول المعهود بين العرب قبل الإسلام حيث کانت النساء يعتددن إلي حول، و قد أمضاه القرآن کبعض ما أمضاه من السنن الرائجة فيه لمصلحة هو أعلم بها.
ثمّ نسخت بقوله سبحانه: (وَ الّذينَ يُتوفَّونَ مِنْکُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعة أَشْهُرٍ وَ عَشْراً) (البقرة/234.
و بذلک يعلم أنّه يشترط في النسخ وقوع العمل بالمنسوخ فترة، ثمّ ورود الناسخ بعده و إلي هذا يشير کلام الأُصوليين حيث يقولون يشترط في النسخ حضور العمل.
إنّ النسخ في القوانين العرفية  يلازم البداء أي ظهور ما خفي لهم من المصالح و المفاسد، و هذا بخلاف النسخ في الأحکام الشرعية، فإنّ علمه سبحانه محيط لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فالله سبحانه يعلم مبدأ الحکم و غايته غير أنّ المصلحة اقتضت إظهار الحکم بلا غاية لکنّه في الواقع مغيّي.
فقد خرجنا بهذه النتيجة أنّ النسخ في الأحکام العرفية رفع للحکم واقعاً، و لکنه في الأحکام الإلهية دفع لها و بيان للأمد الذي کانت مغيّي به منذ تشريعها ولا مانع ما إظهار الحکم غير مغيّي، و هو في الواقع محدّد لمصلحة في نفس

الإظهار.
هذا هوالنسخ، و أمّا حدّ التخصيص، فهو إخراج فرد أو عنوان عن کونه محکوماً بحکم العام من أوّل الأمر حسب الإرادة الجدية، و إن شمله حسب الإرادة الاستعماليّة، فهو تخصيص في الأفراد لا في الأزمان مقابل النسخ الذي عرفت أنّه هو تخصيص فيها، و لأجل ذلک يشتط في التخصيص وروده قبل حضور وقت العمل بالعام، و إلاّ فلو عمل بالعام ثمّ ورد التخصيص يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو قبيح علي الحکيم، فلا محيص من وروده قبل العمل بالعام لو کان مخصِّصاً، نعم لو کان ناسخاً لحکم العام في مورده يجب تأخيره عن وقت حضور العمل بالعام.
تمّ الکلام في المقصد الرابع والحمدلله


المقصد الخامس في المطلق و المقيد و المجمل و المبين
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في تعريف المطلق و المقيّد.
الفصل الثاني: في ألفاظ المطلق.
الفصل الثالث: في أنّ المطلق بعد التقييد ليس مجازاً.
الفصل الرابع: في مقدمات الحکمة.
الفصل الخامس: في المطلق و المقيّد المتنافيين.
الفصل السادس: في المجمل و المبين و المحکم و المتشابه.


الفصل الأوّل تعريف المطلق
عرّف المطلق: بأنّه ما دلّ علي شائع في جنسه، و المقيّد علي خلافه.
و المراد من الموصول في قولهم «ما دلّ» هو اللفظ، و المراد من الشائع هو المتوفّر وجودُه من ذلک الجنس.
ثمّ إنّ ظاهر التعريف أنّ الإطلاق و التقييد عارضان للّفظ بما هو هو سواء تعلّق به الحکم أو لا، فهنا لفظ مطلق، و لفظ مقيّد.
و لکن هذا النوع من البحث يناسب البحوث الأدبية، و الذي يهمّ الأُصولي الذي هو بصدد تأسيس قواعد تکون مقدّمة للاستنباط هو تعريف المطلق و المقيد بلحاظ تعلّق الحکم بالموضوع، فنقول:

المطلق: عبارة عن کون اللفظ بما له من المعني، تمامَ الموضوع للحکم، بلا لحاظ حيثية أُخري، فبما أنّه مرسل عن القيد في مقام الموضوعية للحکم فهو مطلق.
و إن شئت قلت: إنّ الإطلاق و التقييد وصفان عارضان للموضوع باعتبار تعلّق الحکم به، فلو کان اللفظ في مقام الموضوعية مرسلاً عن القيد و الحيثية الزائدة کان مطلقاً و إلاّ کان مقيّداً.
فالرقبة في «أعتق رقبة» مطلق لکونها تمام الموضوع للحکم و مرسلة عن


القيد في موضوعيّته، و تخالفه رقبة في قولنا «أعتق رقبة مؤمنة» فهي مقيّدة بالإيمان لعدم کونها تمام الموضوع وعدم إرسالها عن القيد.
و بذلک يظهر أنّه لا يشترط في المطلق أن يکون مفهوماً کليّاً، بل يمکن أن يکون جزئياً حقيقياً و مرسلاً عن التقيد بحالة خاصة، فإذا قال: أکرم زيداً فزيد مطلق، لأنّه تمام الموضوع للوجوب و مرسل عن القيد، بخلاف ما إذا قال: أکرم زيداً إذا سلّم، فهو مقيد بحالة خاصة، أعني: «إذا سلّم»، فإطلاق الکلي - في مقام الموضوعية للحکم - باعتبار الأفراد، و إطلاق الجزئي في ذلک المقام بالنسبة إلي الحالات.
و يترتب علي ما ذکرنا أُمور:
الأوّل: لا يشترط في المطلق أن يکون أمراً شائعاً في جنسه بل يجوز أن يکون جزئياً ذا أحوال، فلو کان موضوعاًً للحکم بلا قيد فهو مطلق و إلاّ فهو مقيّد فمثلاً إذا شُکّ في جواز الطواف بالبيت مع خلو البيت عن الستر، فيصح له التمسّک بقوله سبحانه: (وَلْيَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتِيق) (الحج/29) إذ لو کان الستر شرطاً للصحّة کان عليه البيان إذا کانت الآية في ذلک المقام.
الثاني: إنّ الإطلاق و التقييد من الأُمور الإضافية، فيمکن أن يکون الموضوع مطلقاً من جهة ومقيداً من جهة أُخري، کما إذا قال: أطعم إنساناً جالساً في المسجد، فهو مطلق من جهة کون الموضوع هو الإنسان لا الإنسان العالم، و مقيّد من جهة تقييد مکانه بالمسجد.
الثالث: يظهر من التعريف المشهور أنّ الإطلاق من المداليل اللفظية کالعموم، والحقّ أنّ الإطلاق من المداليل العقلية، فإذا کان المتکلّم حکيماً غير ناقض لغرضه وجعل الشيء بلا قيد موضوعاً للحکم کشف ذلک انّه تمام



الموضوع و إلاّ لکان ناقضاً لغرضه و هو ينافي کونه حکيماً.
الرابع: إذا کانت حقيقة الإطلاق دائرة مدار کون اللفظ تمام الموضوع من دون اشتراط أن يکون الموضوع اسم الجنس أو النکرة أو معرفاً باللام، فنحن في غني عن إفاضة القول في حقائق تلک الأسماء.
نعم من فسّر الإطلاق بالشيوع أو نظيره فلا محيص له عن التکلّم في حقائق تلک الأسماء، و حيث ذکرت في الکتب الأُصولية نشير إليها علي سبيل الإجمال.
الفصل الثاني ألفاظ المطلق
1. اسم الجنس
کان الرأي السائد بين الأُصوليّين قبل سلطان العلماء انّ المطلق کاسم الجنس موضوع للماهية بقيد الإطلاق و السريان و الشيوع علي نحو کان الشيوع بين الأفراد و الحالات من مداليل اللّفظ، فالرقبة في (أعتق رقبة) موضوعة للرقبة المطلقة علي وجه يکون الإطلاق قيداً، نظير المفعول المطلق.
ولکن صار الرأي السائد بعد تحقيق سلطان العلماء هو أنّه موضوع للماهية المعرّاة عن کلّ قيد حتي الإطلاق نظير مطلق المفعول.
و علي ذلک فأسماء الأجناس کأسد و إنسان و بقر کلّها موضوعة للماهية المعرّاة عن کلّ قيد.

2. علم الجنس
إنّ في لغة العرب أسماءً ترادفُ أسماءَ الأجناس، لکن تُعامل معها معاملةَ المعرفة بخلاف أسماء الأجناس فيعامل معها معاملة النکرة، فهناک فرق بين ثعلب و ثعالة، و أسد و أُسامة، حيث يقع الثاني منهما مبتدأً و ذا حال بخلاف الأوّلين، و هذا ما دعاهم إلي تسمية ذلک بعلم الجنس.
3. المعرّف بالألف واللام
اللام تنقسم إلي: لام الجنس و لام الاستغراق، و لام العهد. ولام الاستغراق تنقسم إلي: استغراق الأفراد، و استغراق خصائصها. ولام العهد تنقسم إلي: ذهني، و ذکريّ، و حضوري.
فصارت الأقسام ستة والمقصود منه هاهنا المحلي بلام الجنس مثل قولهم: التمرة خير من جرادة.
4. النکرة
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ النکرة هل وضعت للفرد المردّد بين الأفراد، أو موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة؟
و التحقيق هو الثاني، لأنّها عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين، فاسم الجنس يدلّ علي الطبيعة و التنوين يدلّ علي الوحدة.
و أمّا القول بأنّها موضوعة للفرد المردّد بين الأفراد، فغير تام، إذ لازم ذلک أن لا يصحّ امتثاله إذا وقع متعلّقاً للحکم، لأنّ الفرد الممتثل به، فرد متعيّن مع أنّ المأُمور به هو الفرد المردّد، فإذا قال: جئني بإنسان، فأيّ إنسان أتيت به فهو هو و ليس مردّداً بينه و بين غيره.



الفصل الثالث في أنّ تقييد المطلق لا يوجب المجازية
اختلفت کلمة الأُصوليّين في أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية أو لا علي أقوال، نذکر منها قولين:
الأوّل: انّه يستلزم المجازية مطلقاً سواء کان القيد متصلاً أم منفصلاً، و هو المشهور قبل سلطان العلماء.
الثاني: إنّه انّه لا يستلزم المجازية مطلقاً، و هو خيرة سلطان العلماء.
حجة القول الأوّل هو أنّ مقوّم الإطلاق هو الشيوع و السريان، و قد قيل في تعريفه ما دلّ علي شائع في جنسه و بالتقييد يزول الشمول و السريان فينتج المجازية.
و حجّة القول الثاني: انّ المطلق موضوع للحقيقة المعرّاة من کلّ قيد حتي الشيوع و السريان، فالتقييد لا يحدث أيّ تصرف في المطلق.
و الحقّ انّ التقييد لا يوجب مجازية المطلق، سواء کان المطلق موضوعاً للشائع، أو لنفس الماهية المعراة عن کلّ قيد کما مرّ من أنّ تخصيص العام بالتخصيص المتصل والمنفصل، لا يستلزم مجازيته.
لأنّ کل لفظ مستعمل في معناه، فلو قلنا بأنّ المطلق موضوع للشائع في جنسه، فهو مستعمل في معناه، و تقييده بقيد لا يوجب استعماله في غير ما وضع له، لما عرفت من تعدّد الدالّ و المدلول، فلاحظ.

الفصل الرابع مقدّمات الحکمة
الاحتجاج بالإطلاق لا يتم إلاّ بعد تمامية مقدّمات الحکمة الحاکمة علي أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع للحکم، و هذا هو السرّ لحاجة المطلق إلي تلک المقدّمات.
فنقول: إنّ مقدّمات الحکمة عبارة عن:
1. کون المتکلّم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الإهمال و لا الإجمال.
2. انتفاء ما يوجب التقييد. و إن شئت قلت: عدم نصب القرينة علي القيد.
3. انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب.
أمّا المقدّمة الأُولي: فالمتکلّم قد يکون في مقام بيان أصل الحکم من دون نظر إلي الخصوصيات و الشرائط، مثل قوله تعالي: (أُحِلَّ لَکُمُ الطَيِّبات) (المائدة/5) و قوله: (أُحِلَ لَکُمْ صيدُ البَحْرِ) (المائدة/96) و قول الفقيه: الغنم حلال، فالجميع في مقام بيان أصل الحکم لا في مقام بيان خصوصياته، فلا يصحّ التمسک بأمثال هذه الإطلاقات عند الشکّ في الجزئية و الشرطية.
وقد يکون في مقام بيان کلّ ما له داخل في الموضوع من الأجزاء و الشرائط، فإذا سکت عن بيان جزئية شيء أو شرطيته نستکشف انّه غير دخيل في الموضوع.

و علي ذلک إنّما يصحّ التمسّک في نفي الجزئية و الشرطية بالإطلاقات الواردة لبيان الموضوع بأجزائه و شرائطه دون ما کان في مقام الإجمال و الإهمال، فإن ترک بيان ما هو الدخيل في الغرض قبيح في الأوّل دون الثاني.
مثل قوله سبحانه: (فَکُلُوا مِمّا أَمْسَکْنَ عَلَيْکُمْ وَ اذْکُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا الله إِنَّ اللهَ سَريعُ الحِساب) (المائدة/4).
فالآية بصدد بيان أنّ ما أمسکه الکلب بحکم المذکّي إذا ذکر اسم الله عليه و ليس بميتة، فهي في مقام بيان حليّة ما يصيدة الکلب و إن مات الصيد قبل أن يصل إليه الصائد.
و هل يصحّ التمسّک بإطلاق قوله: (فَکُلُوا) علي طهارة موضع عضّه وجواز أکله بدون غسله و تطهيره، أو لا؟
الظاهر، لا لأنّ الآية بصدد بيان حلّيته و حرمته لا طهارته و نجاسته، فقوله تعالي: (فکلوا) لرفع شبهة حرمة الأکل، لأجل عدم ذبحه بالشرائط الخاصة، لا بصدد بيان طهارته من أجل عضّه.
وأمّا المقدّمة الثانية أي انتفاء ما يوجب التقييد، و المراد منه عدم وجود قرينة علي التقييد لا متصلة ولا منفصلة، لأنّه مع القرينة المتصلة لا ينعقد للکلام ظهور إلاّ في المقيد و مع المنفصلة و إن کان ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق ولکن يسقط عن الحجّية بالقرينة المنفصلة.
و أمّا المقدّمة الثالثة، أي انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب و المحاورة، فمرجعه إلي أنّ وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة بمنزلة القرينة الحالية المتصلة، فلا ينعقد للکلام ظهور في الإطلاق.
تتميم: الأصل في کلّ متکلّم أن يکون في مقام البيان، فلو شکّ أنّ المتکلّم

في مقام بيان تمام مراده، فالأصل کونه کذلک إلاّ أن يدلّ دليل علي خلافه کما أنّه يمکن أن يکون للکلام جهات مختلفة، کأن يکون وارداً في مقام البيان من جهة و في مقام الإهمال من جهة أُخري، کما في الآية السابقة، فقد کان في مقام البيان من جهة الحلية لا في مقام بيان طهارة موضع العض.
الفصل الخامس المطلق و المقيد المتنافيان
إذا ورد مطلق کقول الطبيب: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً، وورد مقيّد مناف له کقوله في کلام آخر: إذا استيقظت من النوم اشرب لبناً حلواً. فهذان الحکمان متنافيان، لأنّ الأوّل يدلّ علي کفاية شرب مطلق اللبن بخلاف الثاني فإنّه يخصه بالحلو منه.
فعلاج هذا التنافي يحصل بأحد أمرين:
أ. التصرف في المطلق بحمله علي المقيد فيصير اللازم هو شرب اللبن الحلو.
ب. التصرف في المقيد مثل حمله علي الاستحباب.
و الرائج في الخطابات الشرعية هو حمل المطلق علي المقيد لا حمل المقيد علي الاستحباب، و قد عرفت وجهه من أنّ التشريع تمّ تدريجاً و مثله يقتضي جعل الثاني متمماً للأوّل.
ثمّ إنّ إحراز التنافي فرع إحراز وحدة الحکم، و إلاّ فلا يحصل التنافي کما إذا اختلف سبب الحکمين مثلاً إذا قال: إذا استيقظت من النوم فاشرب لبناً حلواً، و إذا أکلت فاشرب لبناً، فالحکمان غير متنافيين لاختلافهما في السبب.


فعلي الفقيه في مقام التقييد إحراز وحدة الحکم عن طريق إحراز وحدة السبب و غيرها، و إلاّ فلا داعي لحمل المطلق علي المقيد لتعدّد الحکمين.

ادامه نوشته

آموزش اصول فقه

دانلود الموجز آيت الله سبحاني – قسمت دوم
المبحث الخامس: المرّة و التکرار
إذا دلّ الدليل علي أنّ المولي يطلب الفعل مرّة واحدة کقوله سبحانه: (وَ للهِ عَلَي النّاسِ حِجُّ البَيْتِ) (آل عمران/97)، أو دلّ الدليل علي لزوم التکرار کقوله سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مُنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/185) فيتبعُ مدلوله.
و أمّا إذا لم يتبيّن واحد من الأمرين، فهل تدلّ علي المرّة أو علي التکرار أو لا تدلّ علي واحد منهما؟
الحقّ هو الثالث، لأنّ الدليل إمّا هو هيئة الأمر أو مادته، فالهيئة وضعت لنفس البعث، و المادّة وضعت لصرف الطبيعة، فليس هناک ما يدلّ علي المرّة و التکرار و استفادتهما من اللفظ بحاجة إلي دليل.
المبحث السادس: الفور والتراخي
اختلف الأُصوليون في دلالة هيئة الأمر علي الفور أو التراخي علي أقوال:
1 . انّها تدلّ علي الفور.
2. انّها تدلّ علي التراخي.
3. انّها لا تدلّ علي واحد منهما.
والحقّ هو القول الثالث لما تقدّم في المرّة والتکرار من أنّ الهيئة وضعت للبعث، و المادة وضعت لصرف الطبيعة، فليس هناک ما يدلّ علي واحد منهما.
استدل القائل بالفور بآيتين:
1 . قوله سبحانه: (وَ سارِعُوا إِلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَ الأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقين) (آل عمران/123).
وجه الاستدلال: انّ المغفرة فعل لله تعالي، فلا معني لمسارعة العبد إليها، فيکون المراد هو المسارعة إلي أسباب المغفرة و منها فعل المأمور به.
يلاحظ عليه: بأنّ أسباب المغفرة لا تنحصر بالواجبات إذ المستحبات أيضاً من أسبابها، و عندئذٍ لا يمکن أن تکون المسارعة واجبة مع کون أصل العمل مستحباً.

2. قوله سبحانه: (وَ لَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلکِنْ لِيَبْلُوَکُمْ فِي ما آتاکُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرات) (المائدة/48).
فظاهر الآية وجوب الاستباق نحوَ الخير و الإتيان بالفرائض - الذي هو من أوضح مصاديقه - فوراً.
يلاحظ عليه: أنّ مفاد الآية بعث العباد نحوَ العمل بالخير بأن يتسابق کلّ علي الآخر مثل قوله سبحانه: (وَاسْتَبَقا الباب) (يوسف/25) ولا صلة للآية بوجوب مبادرة کلّ مکلّف إلي ما وجب عليه و إن لم يکن في مظنة السبق.

الفصل الثالث الإجزاء
تصدير
لانزاع في أنّ المکلّف إذا امتثل ما أمر به مولاه علي الوجه المطلوب - أي جامعاً لما هو معتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط - يعدّ ممتثلاً لذلک الأمر و مسقطاً له من دون حاجة إلي امتثال ثان.
دليل ذلک: انّ الهيئة تدلّ علي البعث أو الطلب، و المادة تدلّ علي الطبيعة و هي توجد بوجود فرد واحد، فإذا امتثل المکلّف ما أمر به بإيجاد مصداق واحد منه فقد امتثل ما أمر به و لا يبقي لبقاء الأمر بعد الامتثال وجه.
و إنّما النزاع في إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياري و إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي وهاهنا مبحثان:
المبحث الأوّل: إجزاء الأمر الواقعي الاضطراري عن الاختياريّ
الصلوات اليومية واجبة بالطهارة المائية قال سبحانه: (يا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَيديَکُمْ إِلَي المَرافِقِ ...) (المائدة/6).
و ربما يکون المکلّف غير واجد للماء فجُعِلت الطهارة الترابية مکان الطهارة المائية لأجل الاضطرار، قال سبحانه: (وَ إِنْ کُنْتُمْ مَرضي أَو عَلي سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ
مِنْکُمْ مِنَ الغائِطِ اوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة/6).
فالصلاة المائية فرد اختياري و الأمر به أمر واقعي أوّلي، کما أنّ الصلاة بالطهارة الترابية فرد اضطراريّ و الأمر به أمر واقعي ثانوي، فيقع الکلام في أنّ المکلّف إذا امتثل المأمور به في حال الاضطرار علي الوجه المطلوب، فهل يسقط الأمر الواقعي الأوّلي بمعني أنّه لو تمکّن من الماء بعد إقامة الصلاة بالتيمم، لا تجب عليه الإعادة و لا القضاء، أو لا يسقط؟ أمّا سقوط أمر نفسه فقد علمت أنّ امتثال أمر کلّ شيء مسقط له.
ثمّ إنّ للمسألة صورتين:
تارة يکون العذر غيرَ مستوعب، کما إذا کان المکلّف فاقداً للماء في بعض أجزاء الوقت و قلنا بجواز البدار فصلّي متيمّماً ثمّ صار واجداً له.
و أُخري يکون العذر مستوعباً، کما إذا کان فاقداً للماء في جميع الوقت فصلّي متيمّماً، ثمّ ارتفع العذر بعد خروج الوقت.
فالکلام في القسم الأوّل في وجوب الإعادة في الوقت، و القضاء خارجه، کما أنّ الکلام في الثاني في وجودب القضاء.
والديليل علي الإجزاء أنّه إذا کان المتکلم في مقام البيان لما يجب علي المکلّف عند الاضطرار، ولم يذکر إلاّ الإتيان بالفرد الاضطراري من دون إشارة إلي إعادته أو قضائه بعد رفع العذر، فظاهر ذلک هو الإجزاء فمثلاً: انّ ظاهر قوله سبحانه: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (المائدة/6)، و قوله صلي الله عليه و آله وسلّم : «يا أباذر
يکفيک الصعيد عشر سنين»  و قوله عليه السلام في رواية أُخري: «إنّ ربّ الماء ربّ الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». هو الإجزاء و عدم وجوب الإعادة و القضاء، و إلاّ لوجب عليه البيان فلا بدّ في إيجاب الإتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص.
ولو افترضنا عدم کون المتکلّم في مقام البيان في دليل البدل و کونه ساکتاً عن الإعادة و القضاء، فمقتضي الأصل أيضاً هو البراءة وسيأتي تفصيله.
المبحث الثاني: في إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
الکلام في إجزاء امتثال الأمر الظاهري عن امتثال الأمر الواقعي يتوقف علي توضيح الأمر الظاهري أوّلاً، ثمّ البحث عن الإجزاء ثانياً.
ينقسم الحکم عند الأُثوليين إلي واقعي و ظاهري.
أمّا الحکم الواقعي: فهو الحکم الثابت للشيء بما هوهو أي من غير لحاظ کون المکلّف جاهلاً بالواقع أو شاکّاً فيه، کوجوب الصلاة و الصوم و الزکاة و غير هما من الأحکام القطعية.
و أمّا الحکم الظاهري، فهو الحکم الثابت للشيء عند عدم العلم بالحکم الواقعي، و هذا کالأحکام الثابتة بالأمارات و الأُصول
إذا عرفت ذلک يقع الکلام في أنّ العمل بالأمارة أو الأُصول هل يقتضي الإجزاء عن امتثال الأمر الواقعي أو لا؟
فمثلاً إذا دلّ خبر الواحد علي کفاية التسبيحة الواحدة في الرکعتين
الأخيرتين، أو دلّ علي عدم وجوب السورة الکاملة، أو عدم وجوب الجلوس بعد السجدة الثانية، فطُبِّق العمل علي وفق الأمارة ثمّ تبيّن خطؤها، فهل يجزي عن الإعادة في الوقت و القضاء خارجه أولا؟
أو إذا صلّي في ثوب مستصحب الطهارة ثمّ تبيّن أنّه نجس، فهل يُِجزي عن الإعادة في الوقت و القضاء بعده أو لا؟
فيه أقوال ثالثها الإجزاء مطلقاً من غير فرق بين کون الامتثال بالأمارة أو الأصل.
الفصل الرابع مقدّمة الواجب
تعريف المقدّمة
«ما يتوصل بها إلي شيء آخر علي وجه لولاها لما أمکن تحصيله» من غير فرق بين کون المقدّمة منحصرة، أو غير منحصرة، غاية الأمر أنّها لو کانت منحصرة لانحصر رفع الاستحالة بها، و إن کانت غير منحصرة لانحصر رفع الاستحالة في الإتيان بها أو بغيرها، وقد وقع الخلاف في وجوب مقدمة الواجب شرعاً بعد اتفاق العقلاء علي وجوبها عقلاً، و قبل الدخول في صلب الموضوع نذکر أقسام المقدّمة:
فنقول: إنّ للمقدّمة تقسيمات مختلفة:
الأوّل: تقسيمها إلي داخلية و خارجية
المقدّمة الداخلية: و هي جزء المرکب، أو کلّ ما يتوقف عليه المرکّب وليس له وجود مستقل خارج عن وجود المرکّب کالصلاة فانّ کلّ جزء منها مقدّمة داخليّة باعتبار أنّ المرکّب متوقّف في وجوده علي أجزائه، فکلّ جزء في نفسه مقدّمة لوجود المرکّب، و إنّما سمّيت داخلية لأنّ الجزء داخل في قوام المرکّب، فالحمد أو الرکوع بالنسبة إلي الصلاة مقدّمة داخلية.
المقدّمة الخارجية: و هي کلّ ما يتوقف عليه الشيء و له وجود مستقل خارج عن وجود الشيء، کالوضوء بالنسبة إلي الصلاة.
الثاني تقسيمها إلي عقلية و شرعية و عادية
المقدّمة العقلية: ما يکون توقّف ذي المقدّمة عليه عقلاً، کتوقف الحج علي قطع المسافة.
المقدّمة الشرعية: ما يکون توقّف ذي المقدّمة عليه شرعاً، کتوقّف الصلاة علي الطهارة.
المقدّمة العادية: ما يکون توقّف ذي المقدّمة عليه عادة، کتوقّف الصعود إلي السطح علي نصب السلَّم.
الثالث: تقسيمها إلي مقدّمة الوجود و الصحّة و الوجوب و العلم
الملاک في هذا التقسيم غير الملاک في التقسيمين الماضيين، فانّ الملاک في التقسيم الأوّل هو تقسيم المقدّمة بلحاظ نفسها و في الثاني تقسيمها بلحاظ حاکمها و هو إمّا العقل أو الشرع أو العادة و في التقسيم الثالث تقسيمها باعتبار ذيها و إليک البيان.
مقدّمة الوجود: هي ما يتوقف وجود ذي المقدمة عليها کتوقف المسبب علي سببه.
مقدّمة الصحّة: هي ما تتوقف صحّة ذي المقدّمة عليها کتوقف صحّة العقد الفضولي علي إجازة المالک.
مقدّمة الوجوب: هي ما يتوقف وجوب ذي المقدمة عليها کتوقف وجوب الحجّ علي الاستطاعة.
مقدّمة العلم: هي ما يتوقّف العلم بتحقّق ذي المقدمة عليها، کتوقّف العلم بالصلاة إلي القبلة، علي الصلاة إلي الجهات الأربع.
و النزاع في وجوب المقدّمة و عدمه إنّما هو في القسمين الأوّلين أي مقدّمة الوجود و الصحّة، و أمّا مقدّمة الوجوب فهو خارج عن محطّ النزاع، لأنّها لولا المقدّمة لما وصف الواجب بالوجوب، فکيف تجب المقدّمة بالوجوب الناشئ من قبل الواجب، المشروط وجوبه بها؟
و أمّا المقدّمة العلمية فلا شکّ في خروجها عن محطّ النزاع، فإنّها واجبة عقلاً لا غير، ولو ورد في الشرع الأمر بالصلاة إلي الجهات الأربع، فهو إرشاد إلي حکم العقل.
الرابع: تقسيمها إلي السبب و الشرط و المُعدّ والمانع
ملاک هذا التقسيم هو اختلاف کيفية تأثير کلّ في ذيها، غير أنّ تأثير کلّ يغاير نحو تأثير الآخر، و إليک تعاريفها.
السبب: ما يکون منه وجود المسبب و هذا ما يطلق عليه المقتضي، کالدلوک فانّه سبب لوجوب الصلاة، و شغل ذمة المکلّف بها لقوله سبحانه: )أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلي غَسَقِ اللَّيْل( (الإسراء/78).
الشرط: ما يکون مصححاً إمّا لفاعلية الفاعل، أو لقابلية القابل، و هذا کمجاورة النار للقطن، أو کجفاف الحطب شرط احتراقه بالنار. و مثاله الشرعي کون الطهارة شرطاً لصحّة الصلاة، والاستطاعة المالية شرطاً لوجوب الحج.
المُعِدّ: ما يقرّب العلّة إلي المعلول کارتقاء السلّم، فإنّ الصعود إلي کلّ درجة، معدّ للصعود إلي الدرجة الأُخري.
المانع: ما يکون وجوده مانعاً عن تأثير المقتضي، کالقتل حيث جعله الشارع مانعاً من الميراث، والحدث مانعاً من صحّة الصلاة.
الخامس: تقسيمها إلي مفوِّتة و غير مفوِّتة
المقدّمة المفوّتة: عبارة عن المقدّمة التي يحکم العقل بوجوب الإتيان بها قبل وجوب ذيها علي وجه لولم يأت بها قبله لما تمکّن من الإتيان بالواجب في وقته، کقطع المسافة للحجّ قبل حلول أيّامه بناء علي تأخر وجوب الحجّ إلي أن يحين وقته، فبما أنّ ترک قطع المسافة في وقته يوجب فوت الواجب، يعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة.
و مثله الاغتسال عن الجنابة للصوم قبل الفجر، فإنّ الصوم يجب بطلوع الفجر، و لکن يلزم الإتيان بالغسل قبله و إلاّ لفسد الصوم، و يکون ترکه مفوِّتاً للواجب.
السادس: تقسيمها إلي مقدّمة عبادية و غيرها
إنّ الغالب علي المقدّمة هي کونها أمراً غير عبادي، کتطهير الثوب للصلاة، و قطع المسافة إلي الحجّ، و ربما تکون عبادة، و مقدّمة لعبادة أُخري بحيث لا تقع مقدّمة إلاّ إذا وقعت علي وجه عبادي، و مثالها منحصر في الطهارات الثلاث (الوضوء و الغسل و التيمم).
الأقوال في المسألة
اختلفت کلمة الأُصوليين في حکم المقدمة علي أقوال:
1 . وجوبها مطلقاً و هو المشهور.
2. عدم وجوبها کذلک.
3. القول بالتفصيل.
و المختار عندنا: عدم وجوب المقدّمة أساساً، فتصبح الأقوال المتقدّمة کالسالبة بانتفاء الموضوع، لأنّها علي فرض وجوبها، و إليک بيان المختار.
وجوب المقدّمة بين اللغوية و عدم الحاجة
إنّ الغرض من الإيجاب هو جعل الداعي في ضمير المکلّف للانبعاث نحو الفعل، و الأمر المقدّمي فاقد لتلک الغاية، فهو إمّا غير باعث، أو غير محتاج إليه.
أمّا الأوّل، فهو فيما إذا لم يکن الأمر بذي المقدّمة باعثاً نحو المطلوب النفسي، فعند ذلک يکون الأمر بالمقدّمة أمراً لغواً لعدم الفائدة في الإتيان بها.
و أمّا الثاني، فهو فيما إذا کان الأمر بذيها باعثاً للمکلّف نحو المطلوب، فيکفي ذلک في بعث المکلّف نحو المقدّمة أيضاً، و يکون الأمر بالمقدّمة أمراً غير محتاج إليه.
و الحاصل: أنّ الأمر المقدّمي يدور أمره بين عدم الباعثية إذا لم يکن المکلّف بصدد الإتيان بذيها، و عدم الحاجة إليه إذا کان بصدد الإتيان بذيها، و إذا کان الحال کذلک فتشريع مثله قبيح لا يصدر عن الحکيم.
الفصل الخامس في تقسيمات الواجب
للواجب تقسيمات مختلفة نشير إليها إجمالاً، ثمّ نأخذ بالبحث عنها تفصيلاً:
1 . تقسيم الواجب إلي مطلق و مشروط.
2. تقسيم الواجب إلي المؤقّت و غير المؤقّت.
3. تقسيم الواجب إلي نفسيّ و غيريّ.
4. تقسيم الواجب إلي أصلي و تبعي.
5. تقسيم الواجب إلي عينيّ و کفائيّ.
6. تقسيم الواجب إلي تعييني و تخييري.
7. تقسيم الواجب إلي التعبديّ والتوصلّي
إمّا أن يکون وجوب الواجب غير متوقّف علي تحقّق ذلک الشيء، کوجوب الحجّ بالنسبة إلي قطع المسافة، فالحجّ واجب سواء قطع المسافة أو لا.
و إمّا أن يکون وجوبه متوقّفاً علي تحقّق ذلک الشيء، بمعني انّه لولا حصوله لما تعلّق الوجوب بالواجب، کالاستطاعة الشرعيّة  بالنسبة إلي الحجّ، فلولاها لما تعلّق الوجوب بالحجّ.
و من هنا يعلم أنّه يمکن أن يکون وجوب الواجب بالنسبة إلي شيء مطلقاً، و بالنسبة إلي شيء آخر مشروطاً کوجوب الصلاة، بل عامة التکاليف بالنسبة إلي البلوغ و القدرة و العقل، فإنّ الصبي و العاجز و المجنون غير مکلّفين بشيء و قد رفع عنهم القلم، فوجوب الصلاة مشروط بالنسبة إلي هذه الأُمور الثلاثة، و لکنّه في الوقت نفسه غير مشروط بالنسبة إلي الطهارة الحدثية والخبثية، فالصلاة واجبة سواء کان المکلّف متطهراً أم لا.
و بذلک يظهر أنّ الإطلاق و الاشتراط من الأُمور النسبية، فقد يکون الوجوب بالنسبة إلي شيء مطلقاً و إلي شيء آخر مشروطاً.
2. تقسيم الواجب إلي المؤقّت و غير المؤقّت
والمؤقّت إلي الموسّع و المضيّق.
الواجب غير المؤقت: مالا يکون للزمان فيه مدخلية و إن کان الفعل لا يخلو عن زمان ، کإکرام العالم و إطعام الفقير.
ثمّ إنّ غير المؤقت ينقسم إلي فوري: و هو مالا يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمکانه، کإزالة النجاسة عن المسجد، و ردّ السّلام، و الأمر بالمعروف.
و غير فوري: وهو ما يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة إمکانه، کقضاء الصلاة الفائتة، وأداء الزکاة، و الخمس.
الواجب المؤقّت: ما يکون للزمان فيه مدخلية، و له أقسام ثلاثة:
أ. أن يکون الزمان المعيّن لإتيان الواجب مساوياً لزمان الواجب، کالصوم، و هو المسمّي بالمضيّق.
ب. أن يکون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أوسع من زمان الواجب، کالصلوات اليومية، و يعبّر عنه بالموسّع.
ج. أن يکون الزمان المعيّن لإتيان الواجب أضيق من زمان الواجب، و هو مجرّد تصور، ولکنّه محال لاستلزامه التکليف بمالا يطاق.
تتمة
هل القضاء تابع للأداء؟
إذا فات الواجب المؤقّت في ظرفه من دون فرق بين کونه مضيّقاً أو موسّعاً، فقيل يدلّ نفس الدليل الأوّل علي وجوب الإتيان خارج الوقت فيجب القضاء و يعبّر عنه بأنّ القضاء تابع للأداء، و قيل بعدم الدلالة فلا يجب القضاء إلاّ بأمر جديد. و يختص محلّ النزاع فيما إذا لم يکن هناک دليل يدلّ علي أحد الطرفين فمقتضي القاعدة سقوط الأمر المؤقّت بانقضاء وقته و عدم وجوب الإتيان به خارج الوقت لأنّه من قبيل الشکّ في التکليف الزائدوسيأتي أنّ الأصل عند الشک في التکليف البراءة.
3. تقسيم الواجب إلي النفسي و الغيري
الواجب النفسي: هو ما وجب لنفسه کالصلاة.
و الواجب الغيري: ما وجب لغيره کالوضوء بالنسبة إلي الصلاة.
4. تقسيم الواجب إلي أصلي و تبعي
إذا کان الواجوب مفاد خطاب مستقل و مدلولاً بالدلالة المطابقية، فالواجب أصلي سواء کان نفسياً کما في قوله سبحانه: )وَ أَقِيمُوا الصَّلاة وَ آتُوا الزَّکاة (النور/56)، أو غيرياً کما في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَي الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَيدِيَکُمْ إِلَي المَرافِقِ( (المائدة/6).
و أمّا إذا کان بيان وجوب الشيء من توابع ما قصدت إفادته، کما إذا قال: اشتر اللحم، الدال ضمناً علي وجوب المشي إلي السوق، فالواجب تبعي لم يُسق الکلام إلي بيانه إلاّ تبعاً.
5. تقسيم الواجب إلي العيني و الکفائي
الواجب العيني: هو ما تعلّق فيه الأمر بکلّ مکلّف ولا يسقط عنه بفعل الغير، کالفرائض اليومية.
الواجب الکفائي: هو ما تعلّق فيه الأمر بعامّة المکلّفين لکن علي نحو لو قام به بعضهم سقط عن الآخرين کتجهيز الميت و الصلاة عليه.
6. تقسيم الواجب إلي التعييني و التخييري
الواجب التعييني: هو مالا يکون له عِدْل، کالفرائض اليومية.
الواجب التخييري: هو ما يکون له عدل، کخصال کفّارة الإفطار العمدي
في صوم شهر رمضان، حيث إنّ المکلّف مخير بين أُمور ثلاثة: صوم شهرين متتابعين، إطعام ستين مسکيناً، و عتق رقبة.
7. تقسيم الواجب إلي التوصّلي و التعبّدي
الواجب التوصّلي: هو ما يتحقّق امتثاله بمجرّد الإتيان بالأُمور به بأي نحو اتفق من دون حاجة إلي قصد القربة، کدفن الميت و تطهير المسجد، و أداء الدين، وردّ السلام.
الواجب التعبّدي: هو ما لا يتحقق امتثاله بمجرّد الإتيان بالمأمور به بل لابدّ من الإتيان به متقرباً إلي الله سبحانه، کالصلاة والصوم و الحجّ.
ثمّ إنّ قصد القربة يحصل بأحد أُمور ثلاثة:
أ: الإتيان بقصد امتثال أمره سبحانه.
ب: الإتيان لله تبارک و تعالي مع صرف النظر عن الآخر.
ج: الإتيان بداعي محبوبية الفعل له تعالي دون سائر الدواعي النفسانية.
ثمّ إنّه إذا شکّ في کون واجب توصّلياً أم تعبّدياً، نفسياً أم غيرياً، عينياً أم کفائياً، تعيينياً أم تخييرياً، فمقتضي القاعدة کونه توصلياً لا تعبّدياً، نفسياً لا غيرياً، عينياً لا کفائياً، تعيينياً لا تخييرياً، و التفصيل موکول إلي الدراسات العليا.
الفصل السادس اقتضاء الأمر بالشيء، النهي عن ضدّه
اختلف الأُصوليون في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ علي أقوال، و قبل الورود في الموضوع نقول: الضدّ هو مطلق المعاند و المنافي، وقسّم الأُصوليون الضدّ إلي ضدّ عام و ضدّ خاص.
و الضدّ العام: هو ترک المأمور به.
و الضدّ الخاص: هو مطلق المعاند الوجودي.
وعلي هذا تنحلُّ المسألة في عنوان البحث إلي مسألتين موضوع إحداهما الضدّ العام، و موضوع الأُخري الضدّ الخاص.
فيقال في تحديد المسألة الأُولي: هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام أو لا؟ مثلاً إذا قال المولي: صلّ صلاة الظهر، فهل هو نهي عن ترکها؟ کأن يقول: «لاتترک الصلاة» فترک الصلاة ضدّ عام للصلاة بمعني انّه نقيض له و الأمر بها نهي عن ترکها
کما يقال في تحديد المسألة الثانية: إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن
ضدّه الخاص أو لا؟ فإذا قال المولي: أزل النجاسة عن المسجد، فهل الأمر بالإزالة لأجل کونها واجباً فوريّاً بمنزلة النهي عن کلّ فعل وجودي يعاندها، کالصلاة في المسجد؟ فکأنّه قال: أزل النجاسة ولا تصلّ في المسجد عند الابتلاء بالإزالة.
المسألة الأُولي: الضدّ العام
إنّ للقائلين باقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن الضدّ العام أقوالاً:
الأوّل: الاقتضاء علي نحو العينية و انّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام، فيدلّ الأمر عليه حينئذٍ بالدلالة المطابقية، فسواء قلت: صلّ أو قلت: لا تترک الصلاة، فهما بمعني واحد.
الثاني: الاقتضاء علي نحو الجزئية و انّ النهي عن الترک جزءٌ لمدلول الأمر بالشيء، لأنّ الوجوب الذي هو مدلول مطابقي للأمر ينحلُّ إلي طلب الشيء و المنع من الترک، فيکون المنع من الترک الذي هو نفس النهي عن الضدّ العام، جزءاً تحليلياً للوجوب.
الثالث: الاقتضاء علي نحو الدلالة الالتزامية، فالأمر بالشيء يلازم النهي عن الضدّ عقلاً.
و مختار المحقّقين عدم الدلالة مطلقاً.
المسألة الثانية: الضد الخاص
استدلّ القائلون بالاقتضاء بالدليل التالي و هو مرکّب من أُمور ثلاثة:
أ. انّ الأمر بالشيء کالإزالة مستلزم للنهي عن ضده العام و هو ترک الإزالة علي القول به في البحث السابق.
ب. انّ الاشتغال بکل فعل وجودي (الضد الخاص) کالصلاة والأکل ملازم للضد العام، کترک الإزالة حيث إنّهما يجتمعان.
ج. المتلازمان متساويان في الحکم، فإذا کان ترک الإزالة منهياً عنه - حسب المقدّمة الأُولي - فالضد الملازم له کالصلاة يکون مثله في الحکم أي منهيّاً عنه.
فينتج أنّ الأمر بالشيء کالإزالة مستلزم للنهي عن الضد الخاص.
يلاحظ عليه: أوّلاً: بمنع المقدّمة الأُولي لما عرفت من أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام، و أنّ مثل هذا النهي المولوي أمر لغو لا يحتاج إليه.
ثانياً: بمنع المقدّمة الثالثة أي لا يجب أن يکون أحد المتلازمين محکوماً بحکم المتلازم الآخر فلو کان ترک الإزالة حراماً لا يجب أن يکون ملازمه، أعني: الصلاة حراماً، بل يمکن أن لا يکون محکوماً بحکم أبداً في هذا الظرف، و هذا کاستقبال الکعبة الملازم لاستدبار الجدي، فوجوب الاستقبال لا يلازم وجوب استدبار الجدي. نعم يجب أن لايکون الملازِم محکوماً بحکم يضادّ حکم الملازَم، کأن يکون الاستقبال واجباً واستدبار الجَدي حراماً، و في المقام أن يکون ترک الإزالة محرماً والصلاة واجبة.
الثمرة الفقهية للمسألة:
تظهر الثمرة الفقهية للمسألة في بطلان العبادة إذا ثبت الاقتضاء، فإذا کان الضد عبادة کالصلاة، و قلنا بتعلّق النهي بها تقع فاسدة، لأنّ النهي يقتضي الفساد، فلو اشتغل بالصلاة حين الأمر بالإزالة تقع صلاته فاسدة أو اشتغل بها، حين طلب الدائن دينه.
الفصل السابع نسخ الوجوب
إذا نسخ الوجوب فهل يبقي الجواز أو لا؟ ولنقدم مثالاً من الکتاب العزيز.
فرض الله سبحانه علي المؤمنين - إذا أرادوا النجوي مع النبي صلي الله عليه و آله وسلّم - تقديم صدقة، قال سبحانه:
)يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا نَاجَيتَُمُ الرسولَ فَقَدِّمُوا بَينَ يَدَي نجواکُم صَدَقَةً ذلکَ خَيْرٌ لَکُمْ وأطهر فإن لَمْ تَجِدُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحيم) (المجادلة/12).
فلمّا نزلت الآية کفّ کثير من الناس عن النجوي، بل کفّوا عن المسألة، فلم يناجه أحد إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم نسخت الآية بما بعدها، وقال سبحانه:
(ءأَشفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَي نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ فَإِذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْکُمْ فَأَقِيمُوا الصَلاةَ وَآتُوا الزَکاةَ وَأَطيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ واللهُ خبيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (المجادلة/13).
فوق الکلام في بقاء جواز تقديم الصدقة إذا ناجي أحد مع الرسول صلي الله عليه و آله وسلّم فهناک قولان:
الأوّل: ما اختاره العلاّمة في «التهذيب» من الدلالة علي بقاء الجواز.
الثاني: عدم الدلالة علي الجواز، بل يرجع إلي الحکم الذي کان قبل الأمر. وهو خيرة صاحب المعالم.
استدل للقول الأوّل بأنّ المنسوخ لما دلَّ علي الوجوب، أعني قوله: (فَقَدِّمُوا بَينَ يَدَي نجواکُم صَدَقَةً) فقد دلَّ علي أُمور ثلاثة:
1. کون تقديم الصدقة جائزاً.
2.کونه أمراً راجحاً.
3. کونه أمراً لازماً.
و القدر المتيقّن من دليل الناسخ هو رفع خصوص الإلزام، و أمّا ما عداه کالجواز و کالرجحان فيؤخذ من دليل المنسوخ، نظيره ما إذا دلّ دليل علي وجوب شيء و دلّ دليل آخر علي عدم وجوبه، کما إذا ورد أکرم زيداً وورد أيضاً لابأس بترک إکرامه فيحکم بأظهرية الدليل الثاني علي الأوّل علي بقاء الجواز و الرجحان.
يلاحظ عليه: أنّه ليس للأمر إلاّ ظهور واحد و هو البعث نحو المأُمور به، و أمّا الوجوب فإنّما يستفاد من أمر آخر، و هو کون البعث تمام الموضوع لوجوب الطاعة والالتزام بالعمل عند العقلاء، فإذا دلّ الناسخ علي أنّ المولي رفع اليد عن بعثه، فقد دلَّ علي رفع اليد عن مدلول المنسوخ فلا معني للالتزام ببقاء الجواز أو الرجحان إذ ليس له إلاّ ظهور واحد، و هو البعث نحو المطلوب لا ظهورات متعدّدة حتي يترک المنسوخ (اللزوم) و يؤخذ بالباقي (الجواز و الرجحان).
و بعبارة أُخري: الجواز و الرجحان من لوازم البعث إلي الفعل، فإذا نسخ الملزوم فلا وجه لبقاء اللازم.
الفصل الثامن الأمر بالأمر بفعل، أمر بذلک الفعل
إذا أمر المولي فرداً ليأمر فرداً آخر بفعل، الأمر الصادر من المولي أمر بذلک الفعل أيضاً أو لا؟ ولإيضاح الحال نذکر مثالاً:
إنّ الشارع أمر الأولياء ليأمروا صبيانهم بالصلاة، روي بسند صحيح عن أبي عبدالله عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال: «إنّا نأمر صبياننا بالصلاة إذا کانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانکم بالصلاة إذا کانوا بني سبع» ففي هذا الحديث أمر الإمام الأولياء بأمر صبيانهم بالصلاة.
فعندئذ يقع الکلام في أنّ أمر الإمام يتحدّد بالأمر بالأولياء، أو يتجاوز عنه إلي الأمر بالصلاة أيضاً.
فمحصّل الکلام: أنّه لا شک أنّ الصبيان مأُمورون بإقامة الصلاة إنّما الکلام في أنّهم مأُمورون من جانب الأولياء فقط، أو هم مأُمورون من جانب الشارع أيضاً.
و تظهر الثمرة في مجالين:
الأوّل: شرعية عبادات الصبيان، فلو کان الأمر بالأمر، أمراً بذلک الفعل تکون عبادات الصبيان شرعية و إلاّ تکون تمرينيّة.
الثاني: صحّة البيع ولزومه فيما إذا أمر الوالد ولده الأکبر بأن يأمر ولده الأصغر ببيع متاعه، فنسي الواسطة إبلاغ أمر الوالد و اطّلاع الأصغر من طريق آخر علي أمر الوالد فباع المبيع.
فإن قلنا بأنّ الأمر بالأمر بفعل، أمر بنفس ذلک الفعل يکون بيعه صحيحاً ولازماً، و إن قلنابخلافه يکون بيعه فضولياً غير لازم.
الظاهر أنّ الأمر بالأمر بالفعل أمر بذلک أيضاً، لأنّ المتبادر في هذه الموارد تعلّق غرض المولي بنفس الفعل و کان أمر المأُمور الأوّل طريقاً للوصول إلي نفس الفعل من دون دخالة لأمر المأُمور الأوّل.
الفصل التاسع الأمر بالشيء بعد الأمر به
هل الأمر بالشيء بعد الأمر به قبل امتثاله ظاهر في التأکيد أو التأسيس، فمثلاً إذا أمر المولي بشيء ثم أمر به قبل المتثال الأمر الأوّل فهل هو ظاهر في التأکيد، أو ظاهر في التأسيس؟
للمسألة صور:
أ. إذا قُيِّدَ متعلّق الأمر الثاني بشيء يدلّ علي التعدّد و الکثرة کما إذا قال: صلِّ، ثم قال: صلِّ صلاة أُخري.
ب. إذا ذُکِرَ لکل حکم سبب خاص، کما إذا قال: إذا نمت فتوضّأ، و إذا مسست ميّتاً فتوضّأ.
ج. إذا ذکر السبب، لواحد من الحکمين دون الآخر، کما إذا قال: توضأ، ثم قال: إذا بلت فتوضأ.
د. أن يکون الحکم خالياً عن ذکر السبب في کلا الأمرين.
لا إشکال في أن الأمر في الصورة الأُولي للتأسيس لا للتأکيدلأن الأمر الثاني صريح في التعدّد.
و أمّا الصورة الثانية، فهي کالصورة الأُولي ظاهرة في تأسيس إيجاب، وراء إيجاب آخر.
نعم يقع الکلام في إمکان التداخل بأن يمتثل کلا الوجوبين المعدّدين بوضوء واحد وعدمه، فهو مبني علي تداخل المسببات و عدمه، فعلي الأوّل يکفي وضوء واحد ولا يکفي علي الثاني و سيأتي الکلام فيه في باب المفاهيم، فيختص محل البحث بالصورتين الأخيرتين.
ولعل القول بالإجمال و عدم ظهور الکلام في واحد من التأکيد و التأسيس أولي، لأنّ الهيئتين تدلاّن علي تعدّد البعث و هو أعم من التأکيد و التأسيس. و ما يقال من أنّ التأسيس أولي من التأکيد، لا يثبت به الظهور العرفي. تم الکلام في المقصد الأوّل والحمدلله
المقصد الثاني في النواهي
و فيه فصول:
الفصل الأوّل: في مادة النهي و صيغته.
الفصل الثاني: في جواز اجتماع الأمر و النهي في عنوان واحد.
الفصل الثالث: في اقتضاء النهي للفساد.

الفصل الأوّل في مادة النهي و صيغته
النهي هو الزجر عن الشيء، قال سبحانه: (أَرَأَيْتَ الّذي يَنْهي* عَبْداً إِذا صَلّي) (العلق/10-9).
و يعتبر فيه العلو و الاستعلاء و يتبادر من مادة النهي، الحرمة بمعني لزوم الامتثال علي وفق النهي. والدليل عليه قوله سبحانه: (وَأَخذِهمُ الرِّبا وَ قَد نُهُوا عَنْهُ) (النساء/161). و قوله سبحانه: (فَلَمّا عَتَوْا عَمّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ کُوُنُوا قِرَدَة خاسِئين) (الأعراف/166). و قوله سبحانه: (وَما آتاکُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/7) وقد مرّ نظير هذه المباحث في مادة الأمر فلا نطيل.
وأمّا صيغة النهي فالمشهور بين الأُصوليين أنّها کالأمر في الدلالة علي الطلب غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما هو الوجود، أعني: نفس الفعل؛ و في الآخرالعدم، أعني: ترک الفعل.
ولکن الحق أنّ الهيئة في الأوامر وضعت للبعث إلي الفعل ، و في النواهي وضعت للزجر، و هما إمّا بالجوارح کالإشارة بالرأس و اليد أو باللفظ والکتابة.
وعلي ضوء ذلک فالأمر و النهي متّحدان من حيث المتعلّق حيث إنّ کلاّ منهما يتعلّق بالطبيعة من حيث هي هي، مختلفان من حيث الحقيقة و المبادئ والآثار.


أمّا الاختلاف من حيث الحقيقة، فالأمر بعث إنشائي و النهي زجر کذلک.
و أمّا من حيث المبادئ فمبدأ الأمر هو التصديق بالمصلحة والاشتياق إليها، و مبدأ النهي هو التصديق بالمفسدة والانزجار عنها.
و أمّا من حيث الآثار فإنّ الإتيان بمتعلّق الأمر إطاعة يوجب المثوبة، والإتيان بمتعلّق النهي معصية توجب العقوبة.
ظهور الصيغة في التحريم
قد علمت أنّ هيئة لا تفعل موضوعة للزجر، کما أنّ هيئة إفعل موضوعة للبعث، و أمّا الوجوب و الحرمة فليسا من مداليل الألفاظ و إنّما ينتزعان من مبادئ الأمر و النهي فلو کان البعث ناشئاً من إرادة شديدة أو کان الزجر صادراً عن کراهة کذلک ينتزع منهما الوجوب أو الحرمة و أمّا إذا کانا ناشئين من إرادة ضعيفة أو کراهة کذلک، فينتزع منهما الندب والکراهة.
و مع انّ الوجوب و الحرمة ليسا من المدليل اللفظية إلاّ انّ الأمر أو النهي إذا لم يقترنا بما يدلّ علي ضعف الإرادة أو الکراهة ينتزع منهما الوجوب و الحرمة بحکم العقل علي أنّ بعث المولي أو زجره لايترک بلا امتثال، واحتمال أنّهما ناشئان من إرادة أو کراهة ضعيفة لا يعتمد عليه مالم يدلّ عليه دليل.
و بعبارة أُخري: العقل يُلزِم بتحصيل المؤمِّن في دائرة المولوية و العبودية ولا يتحقق إلاّ بالإتيان بالفعل في الأمر و ترکه في النهي.
النهي والدلالة علي المرّة و التکرار
إنّ النهي کالأمر لا يدلّ علي المرة ولا التکرار، لأنّ المادة وضعت للطبيعة الصرفة، و الهيئة وضعت للزجر، فأين الدال علي المرة و التکرار؟!


نعم لمّا کان المطلوب هو ترک الطبيعة المنهي عنها، ولا يحصل الترک إلاّ بترک جميع أفرادها يحکم العقل بالاجتناب عن جميع محققات الطبيعة، و هذا غير دلالة اللفظ علي التکرار.
ومنه يظهر عدم دلالتها علي الفور و التراخي بنفس الدليل.
الفصل الثاني اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد بعنوانين
اختلفت کلمات الأُصوليين في جواز اجتماع الأمر و النهي في شيء واحد، و قبل بيان أدلّة المجوِّز و المانع نذکر أُموراً:
الأمر الأوّل: في أنواع الاجتماع
إنّ للاجتماع أنحاء ثلاثة:
ألف: الاجتماع الآمري: فهو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر و الناهي أوّلاً و المأُمور و المنهيّ (المکلَّف) ثانياً، و المأُمور به و المنهي عنه (المکلَّف به) ثالثاً مع وحدة زمان امتثال الأمر و النهي فيکون التکليف عندئذ محالاً، کما إذا قال: صل في ساعة کذا ولا تصل فيها، و يعبَّر عن هذا النوع، بالاجتماع الآمري، لأنّ الآمر هو الذي حاول الجمع بين الأمر و النهي في شيء واحد.
ب: الاجتماع المأموري: هو عبارة عمّا إذا اتحد الآمر و الناهي، و المأُمور و المنهي ولکن اختلف المأُمور به و المنهي عنه، کما إذا خاطب الشارع المکلّف بقوله: صل، ولا تغصب، فالمأُمور به غير المنهي عنه، بل هما ماهيّتان مختلفتان

غير أنّ المکلَّف بسوء اختياره جمعهما في مورد واحد علي وجه يکون المورد مصداقاً لعنوانين و مجمعاً لهما.
ج: الاجتماع الموردي: و هو عبارة عمّا إذا لم يکن الفعل مصداقاً لکل من العنوانين بل يکون هنا فعلان تقارنا و تجاورا في وقت واحد يکون أحد هما مصداقاً لعنوان الواجب و ثانيهما مصداقاً لعنوان الحرام، مثل النظر إلي الأجنبية في أثناء الصلاة، فليس النظر مطابقاً لعنوان الصلاة ولا الصلاة مطابَقاً لعنوان النظر إلي الأجنبية ولا ينطبقان علي فعل واحد، بل المکلّف يقوم يعملين مختلفين متقارنين في زمان واحد، کما إذا صلّي و نظر إلي الأجنبية.
تنبيه: إذا عرفت هذا فاعلم انّ النزاع في الاجتماع المأموري لا الآمري و الموردي.
الأمر الثاني: ما هو المراد من الواحد في العنوان؟
المراد من الواحد في العنوان هو الواحد وجوداً بأن يتعلّق الأمر بشيء و النهي بشيء آخر، ولکن اتحد المتعلّقان في الوجود و التحقّق، کالصلاة المأُمور بها و الغصب المنهي عنه المتحدين في الوجود عند إقامة الصلاة في الدار المغصوبة.
فخرج بقيد الاتحاد في الوجود أمران:
الأوّل: الاجتماع الموردي، کما إذا صلّي مع النظر إلي الأجنبية و ليس وجود الصلاة نفسَ النظر إلي الأجنبية، بل لکلٍّ تحقّق و تشخّص و وجود خاص.
الثاني: الأمر بالسجود لله والنهي عن السجود للأوثان، فالمتعلّقانمختلفان مفهوماً و مصداقاً.
الأمر الثالث: الأقوال في المسألة
إنّ القول بجواز الاجتماع هو مذهب أکثر الأشاعرة، و الفضل بن شاذان من

قدمائنا، و هو الظاهر من کلام السيد المرتضي في الذريعة، و إليه ذهب فحول المتأخّرين من أصحابنا کالمحقّق الأردبيلي و سلطان العلماء و المحقّق الخوانساري و ولده و الفاضل المدقّق الشيرواني و السيد الفاضل صدر الدين و غيرهم، و اختاره من مشايخنا: السيد المحقّق البروجردي و السيد الإمام الخميني قدّس الله أسرارهم و يظهر من المحدّث الکليني رضاه بذلک حيث نقل کلام الفضل بن شاذان في کتابه ولم يعقبه بشيء من الرد و القبول، بل يظهر من کلام الفضل بن شاذان (ت 260 هـ) انّ ذلک من مسلّمات الشيعة.
و أمّا القول بالامتناع، فقد اختاره المحقّق الخراساني في الکفاية و أقام برهانه.
إذا عرفت ذلک، فلنذکر دليل القولين علي سبيل الاختصار وقد استدلوا علي القول بالجواز بوجوه منها:
أنّ الأمر لا يتعلّق إلاّ بما هو الدخيل في الغرض دون ما يلازمه من الخصوصيات غير الدخيلة، و مثله النهي لا يتعلّق إلاّ بما هو المبغوض دون اللوازم و الخصوصيات.
و علي ضوء ذلک فما هو المأُمور به هو الحيثية الصلاتية و إن اقترنت مع الغصب في مقام الإيجاد، و المنهي عنه هو الحيثية الغصبية وان اقترنت مع الصلاة في الوجود و التحقّق.
و علي هذا فالوجوب تعلّق بعنوان الصلاة ولا يسري الحکم إلي غيرها من المشخّصات الاتفاقية کالغصب، کما أنّ الحرمة متعلّقة بنفس عنوان الغصب ولا تسري إلي مشخصاته الاتفاقية، أعني: الصلاة، فالحکمان ثابتان علي العنوان لا يتجاوزانه و بالتالي ليس هناک اجتماع.

و الذي يؤيد جواز الاجتماع هو عدم ورود نص علي عدم جواز الصلاة في المغصوب و بطلانها مع عموم الابتلاء به، فإنّ ابتلاء الناس بالأموال المغصوبة في زمان الدولتين الأُموية و العباسية لم يکن أقل من زماننا خصوصاً مع القول بحرمة ما کانوا يغنمونه من الغنائم في تلک الأزمان، حيث إنّ الجهاد الابتدائي حرام بلا إذن الإمام عليه السلام علي القول المشهور، فالغنائم ملک لمقام الإمامة، و مع ذلک لم يصلنا نهي في ذلک المورد، ولو کان لوصل، و المنقول عن ابن شاذان هو الجواز، و هذا يکشف عن صحة اجتماع الأمر و النهي إذا کان المتعلّقان متصادقين علي عنوان واحد.


ادامه نوشته