اصول فقه
کفاية الاصول - قسمت ششم
المقصد الرابع : في العام والخاص
فصل
قد عرفّ (1) العام بتعاريف ، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارةً والانعكاس أُخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنّها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب ( ما ) (2) الشارحة ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب ( ما ) (3) الحقيقية ، كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح مما عرفّ به مفهوماً و مصداقاً ، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقياس في الإِشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه من أحد ، والتعريف لابد أن يكون بالاجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.
فالظاهر أن الغرض من تعريفه ، إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعاً بين ما لا شبهة في إنّها أفراد العام ، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام ، لا بيان ما هو حقيقته (4) وماهيته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلاً لحكم من الأًحكام.
__________________
1 ـ راجع معارج الأصول / 81 ، وزبدة الأصول / 95 ، والمستصفى 2 / 32.
2 و 3 ـ في « أ » : بالما ، وفي « ب » : بالماء.
4 ـ في « ب » حقيقة.
ثم الظاهر أن ما ذكر له من الأقسام : من الاستغراقي (1) والمجموعي والبدلي إنّما هو باختلاف كيفية تعلق الأحكام به ، وإلاّ فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الأمر أن تعلق الحكم به تارةً بنحو يكون كلّ فرد موضوعاً على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعاً واحداً ، بحيث لو أخلّ بإكرام واحد في ( أَكرم كلّ فقيه ) مثلاً ، لما امتثل أصلاً ، بخلاف الصورة الأولى ، فإنّه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كلّ واحد موضوعاً على البدل ، بحيث لو أَكرم واحداً منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل.
وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كلّ واحد منها ، فافهم.
فصل
لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه ـ لغةً وشرعا ـ كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ ( كلّ ) وما يرادفه في أيّ لغةً كان يخصه ، ولا يخص الخصوص ولا يعمه ، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية ، بادعاء إنّه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص.
ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ، ولو في ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى ، ولا إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع ، حتى قيل : ( ما من عام إلّا وقد خص ) ، والظاهر يقتضي كونه حقيقة ، لما هو الغالب تقليلاً للمجاز ؛ مع أن تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به ، مع
__________________
1 ـ إن قلت : كيف ذلك؟ ولكل واحد منها لفظ غير ما للآخر ، مثل ( أيّ رجل ) للبدلي ، و ( كلّ رجل ) للاستغراقي.
قلت : نعم ، ولكنه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له بملاحظة إختلاف كيفية تعلق الأحكام ، لعدم إمكان تطرق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة ، فتأمل جيداً منه ( 1 ).
كون العموم كثيراً ، ما يراد ، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية ، كما يأتي توضيحه ، ولو سلّم فلا محذور فيه أصلاً إذا كان بالقرينة ، كما لا يخفى.
فصل
ربما عد من الألفاظ الدالة على العموم ، النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً ، لضرورة إنّه لا يكاد يكون طبيعة معدومة ، إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلاّ كانت موجودة ، لكن لا يخفى إنّها تفيده إذا أخذت مرسلة (1) لا مبهمة قابلة للتقيد ، وإلاّ فسلبها لا يقتضي إلّا استيعاب السلب ، لما أُريد منها يقيناً ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها. وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فإنّها بالإضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ ( كلّ ) على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.
نعم لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً ـ بناءً على إفادته للعموم ـ ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره ، وإطلاق التخصيص على تقييده ، ليس إلّا من قبيل ( ضيّق فم الركية ) ، لكن دلالته على العموم وضعاً محلّ منع ، بل إنّما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أُخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما ، كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعضٍ الكلام مما يناسب المقام.
__________________
1 ـ وإحراز الإرسال فيما اضيفت [ إليه ] إنّما هو بمقدمات الحكمة ، فلولاها كانت مهملة ، وهي ليست إلّا بحكم الجزئية ، فلا تفيد إلّا نفي هذه الطبيعة في الجملة ولو في ضمن صنف منها ، فافهم فإنّه لا يخلو من دقة منه ( 1 ).
فصل
لا شبهة في أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فيما بقى فيما علم عدم دخوله في المخصص مطلقاً ولو كان متصلاً ، وما احتمل دخوله فيه أيضاً إذا كان منفصلاً ، كما هو المشهور (1) بين الأصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلّا إلى بعضٍ (2) أهل الخلاف. وربما فصل (3) بين المخصص المتصل فقيل بحجيته فيه ، وبين المنفصل فقيل بعدم حجيته.
واحتج النافي بالإِجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصيات ، وتعيين (4) الباقي من بينها بلا معيّن ترجيح بلا مرجح.
والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّه لا يلزم من التخصيص كون العام مجازاً ، امّا في التخصيص بالمتصل ، فلما عرفت من إنّه لا تخصيص أصلاً ، وأنّ أدوات العموم قد استعملت فيه ، وأنّ كان دائرته سعة وضيقاً تختلف باختلاف ذوي الأدوات ، فلفظة ( كلّ ) في مثل ( كلّ رجل ) و ( كلّ رجل عالم ) قد استعملت في العموم ، وأنّ كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر بل في نفسها في غاية القلة.
واما في المنفصل ، فلان إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاص قرينة عليه ، بل من الممكن قطعاً استعماله معه في العموم قاعدة ، وكون الخاص مانعاً عن حجية ظهوره تحكيما للنص ، أو الأظهر على الظاهر ، لامصادما لاصل ظهوره ، ومعه لا مجال للمصير إلى إنّه قد استعمل فيه مجازاً ، كي يلزم الإِجمال.
__________________
1 ـ أنظر مطارح الأنظار / 192.
2 ـ كأبي ثور وعيسى بن أبان ، راجع الإِحكام في أصول الأحكام ، الجزء الثّاني / 443.
3 ـ كالبلخي ، راجع المصدر المتقدم / 444.
4 ـ في « ب » تعيّن.
لا يقال : هذا مجرد احتمال ، ولا يرتفع به الإِجمال ، لاحتمال الاستعمال في خصوص مرتبة من مراتبه.
فإنّه يقال : مجرد احتمال استعماله فيه لا يوجب إجماله بعد استقرار ظهوره في العموم ، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجية تحكيما لما هو الأقوى ، كما أشرنا إليه آنفا.
وبالجملة : الفرق بين المتصل والمنفصل ، وأنّ كان بعدم انعقاد الظهور في الأوّل إلّا في الخصوص ، وفي الثّاني إلّا في العموم ، إلّا إنّه لا وجه لتوهم استعماله مجازاً في واحد منهما أصلاً ، وإنما اللازم الالتزام بحجية الظهور في الخصوص في الأوّل ، وعدم حجية ظهوره في خصوص ما كان الخاص حجة فيه في الثّاني ، فتفطن.
وقد أجيب عن الاحتجاج (1) ، بأن الباقي أقرب المجازات.
وفيه : لا اعتبارٍ في الاقربية بحسب المقدار ، وإنما المدار على الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال.
وفي تقريرات بحث شيخنا الأستاذ (2) 1 في مقام الجواب عن الاحتجاج ، ما هذا لفظه : ( والاُولى أن يجاب بعد تسليم مجازية الباقي ، بأن دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة ، لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأن المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه ) ، انتهى موضع الحاجة.
__________________
1 ـ الجواب للمحقق القمي والمحقق الحائري ، القوانين 1 / 266 الفصول / 200
2 ـ مطارح الأنظار / 192 ، في العموم والخصوص.
قلت : لا يخفى أن دلالته على كلّ فرد إنّما كانت لأجل دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم يستعمل فيه واستعمل في الخصوص ـ كما هو المفروض ـ مجازاً ، وكان إرادة كلّ واحد من مراتب الخصوصيات مما جاز انتهاء التخصيص إليه ، واستعمال العام فيه مجازاً ممكناً ، كان تعيّن (1) بعضها بلا معيّن ترجيحاً بلا مرجح ، ولا مقتضي لظهوره فيه ، ضرورة أن الظهور امّا بالوضع وإما بالقرينة ، والمفروض إنّه ليس بموضوع له ، ولم يكن هناك قرينة ، وليس له موجب آخر ، ودلالته على كلّ فرد على حدة حيث كانت في ضمن دلالته على العموم ، لا يوجب ظهوره في تمام الباقي بعد عدم استعماله في العموم ، إذا لم تكن هناك قرينة على تعيينه ، فالمانع عنه وأنّ كان مدفوعاً بالأصل ، إلّا إنّه لا مقتضي له بعد رفع اليد عن الوضع ، نعم إنّما يجدي إذا لم يكن مستعملاً إلّا في العموم ، كما فيما حققناه في الجواب ، فتأمل جيداً.
فصل
إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملاً ، بأن كان دائراً بين الأقلّ والأكثر وكان منفصلاً ، فلا يسري إجماله إلى العام ، لا حقيقة ولا حكماً ، بل كان العام متّبعاً فيما لا يتبع فيه الخاص ، لوضوح إنّه حجة فيه بلا مزاحم أصلاً ، ضرورة أن الخاص إنّما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه ، تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا فيما لا يكون كذلك ، كما لا يخفى.
وإن لم يكن كذلك بأن كان دائراً بين المتباينين مطلقاً ، أو بين الأقلّ والأكثر فيما كان متصلاً ، فيسري إجماله إليه حكماً في المنفصل المردّد بين المتباينين ، وحقيقة في غيره :
__________________
1 ـ في « أ » : تعيين.
أما الأوّل : فلان العام ـ على ما حققناه (1) ـ كان ظاهراً في عمومه ، إلّا إنّه يتبع ظهوره في واحد من المتباينين اللذين علم تخصيصه بأحدهما.
وأما الثّاني : فلعدم (2) انعقاد ظهور من رأس للعام ، لاحتفاف الكلام بما يوجب احتماله لكلّ واحد من الأقل والأكثر ، أو لكلّ واحد من المتباينين ، لكنه حجة في الأقل ، لإنّه المتيقن في البين.
فانقدح بذلك الفرق بين المتصل والمنفصل ، وكذا في المجمل بين المتباينين والأكثر والاقل ، فلا تغفل.
وأما إذا كان مجملاً بحسب المصداق ، بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون فرداً له أو باقيا تحت العام ، فلا كلام في عدم جواز التمسك بالعام لو كان متصلاً به ، ضرورة عدم انعقاد ظهور للكلام إلّا في الخصوص ، كما عرفت.
وأما إذا كان منفصلاً عنه ، ففي جواز التمسك به خلاف ، والتحقيق عدم جوازه ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جوازه ، أن الخاص إنّما يزاحم العام فيما كان فعلاً حجة ، ولا يكون حجة فيما اشتبه إنّه من أفراده ، فخطاب ( لا تكرم فساق العلماء ) لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شك في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل ( أَكرم العلماء ) ولا يعارضه ، فإنّه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة ، وهو في غاية الفساد ، فإن الخاص وأنّ لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً ، إلّا إنّه يوجب اختصاص حجية العام في غير عنوإنّه من الأفراد ، فيكون ( أَكرم العلماء ) دليلاً وحجة في العالم الغير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وأنّ كان مصداقاً للعام بلا كلام ، إلّا إنّه لم يعلم إنّه من مصاديقه بما هو حجة ، لاختصاص حجيته بغير الفاسق.
وبالجملة العام المخصص بالمنفصل ، وأنّ كان ظهوره في العموم ، كما إذا
__________________
1 ـ في صفحة 219.
2 ـ في « ب » : ولعدم.
لم يكن مخصصاً ، بخلاف المخصص بالمتصل كما عرفت ، إلّا إنّه في عدم الحجية إلّا في غير عنوان الخاص مثله ، فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتين ، فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين ، هذا إذا كان المخصص لفظياً.
وأما إذا كان لبيّاً ، فإن كان مما يصحّ أن يتّكل عليه المتكلم ، إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فهو كالمتصل ، حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلّا في الخصوص ، وأنّ لم يكن كذلك ، فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه.
والسّر في ذلك ، أن الكلام الملقى من السيد حجة ، ليس إلّا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى : ( أَكرم جيراني ) وقطع بإنّه لا يريد إكرام من كان عدوّاً له منهم ، كان أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ، للعلم بعدواته ، لعدم حجة أُخرى بدون ذلك على خلافه ، بخلاف ما إذا كان المخصص لفظياً ، فإن قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كإنّه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلاً ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجيته ، إلّا فيما قطع إنّه عدّوه ، لا فيما شك فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى له لو لم يكرم واحداً من جيرإنّه لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة ، كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة ، والسيرة المستمرة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور.
وبالجملة :كان بناءً العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك ، ولعله لما أشرنا إليه من التفاوت بينهما ، بإلقاء حجتين هناك ، تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص وتقديمه على العام ، كإنّه لم يعمه حكماً من رأس ،
وكأنه لم يكن بعام ، بخلاف هاهنا ، فإن الحجة الملقاة ليست إلّا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إكرام العدوّ في ( أَكرم جيراني ) مثلاً ، لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلّا فيما قطع بخروجه من تحته ، فإنّه على الحكيم إلقاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.
بل يمكن أن يقال : إن قضية عمومه للمشكوك ، إنّه ليس فرداً لما علم بخروجه من حكمه بمفهومه ، فيقال في مثل ( لعن الله بني أمية قاطبة ) (1) : إن فلاناً وأنّ شك في إيمإنّه يجوز لعنه لمكان العموم ، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمناً ، فينتج إنّه ليس بمؤمن ، فتأمل جيداً.
إيقاظ : لا يخفى أن الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد ـ إلّا ما شذ ـ ممكناً ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وأنّ لم يجز التمسك به بلا كلام ، ضرورة إنّه قلَّما لا يوجد (2) عنوان يجري فيه أصل ينقح به أنّه مما بقي تحته ، مثلاً إذا شك أن أمراًة تكون قرشية ، فهي وأنّ كانت وجدت امّا قرشية أو غيرها ، فلا أصل يحرز إنّها قرشية أو غيرها ، إلّا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش (3) تجدي في تنقيح إنّها ممن لا تحيض إلّا إلى خمسين ، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش (4) انتساب أيضاً باقية تحت ما دلّ على أن المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف.
وهم وإزاحة : ربما يظهر عن بعضهم التمسك بالعمومات فيما إذا شك
__________________
1 ـ كامل الزيارات / 176 ، الباب 71.
2 ـ في « ب » : لم يوجد.
3 و 4 ـ في « أ و ب » القريش.
في فرد ، لا من جهة احتمال التخصيص ، بل من جهة أُخرى ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل ( أوفوا بالنذور ) فيما إذا وقع متعلقاً للنذر ، بأن يقال : وجب الإِتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وكل ما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحاً ، للقطع بإنّه لولا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الإِحرام والصيام قبل الميقات (1) وفي السفر (2) إذا تعلق بهما النذر كذلك.
والتحقيق أن يقال : إنّه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لأَحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها ، إذا أخذ في موضوعاًتها أحد الأحكام المتعلقة بالافعال بعناوينها الأولية (3) ، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة ، ضرورة إنّه معه لا يكاد يتوهم عاقل إنّه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحإنّه أو حليته.
نعم لا بأس بالتمسك به في جوازه بعد إحراز التمكن منه والقدرة عليه _ فيما لم يؤخذ في موضوعاًتها حكم أصلاً ، فإذا شك في جوازه صحّ (4) التمسك بعموم دليلها في الحكم بجوازها ، وإذا كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية ، وقع (5) المزاحمة بين المقتضيين ، ويؤثر الأقوى منهما لو
__________________
1 ـ التهذيب 5 / 53 ، الأحاديث 8 إلى 10 من باب 6 المواقيت.
الاستبصار 2 / 161 الأحاديث 8 إلى 10 من باب 93 من أحرم قبل الميقات ، وللمزيد راجع وسائل الشيعة 8 / 236 الباب 13 من ابواب المواقيت.
2 ـ التهذيب 4 / 235 الحديث 63 و 64 من باب 57 حكم المسافر والمريض في الصيام وللمزيد راجع وسائل الشيعة 7 / 139 الباب 10 من ابواب من يصحّ منه الصوم الحديث 1 و 7.
3 ـ في « أ » : الأولوية.
4 ـ في « أ » : فصح.
5 ـ في « أ » : فتقع.
كان في البين ، وإلاّ لم يؤثر أحدهما ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجح ، فليحكم عليه حينئذ بحكم آخر ، كالاباحة إذا كان أحدهما مقتضياً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً.
وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه ـ بناءً على عدم صحته فيه بدونه ـ وكذا الإِحرام قبل الميقات ، فإنما هو لدليل خاص ، كاشف عن رجحإنّهما ذاتاً في السفر وقبل الميقات ، وإنما لم يأمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النذر ، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك ، كما ربما يدلّ عليه ما في الخبر من كون الإِحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت (1).
لا يقال : لا يجدي صيرورتهما راجحين بذلك في عباديتهما ، ضرورة كون وجوب الوفاء توصلياً لا يعتبر في سقوطه إلّا الإِتيان بالمنذور بأي داع كان.
فإنّه يقال : عباديتهما إنّما تكون لأجل كشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح عليهما ، ملازم لتعلق النذر بهما ، هذا لو لم نقل بتخصيص عموم دليل اعتبارٍ الرجحان في متعلق النذر بهذا الدليل ، وإلاّ أمكن أن يقال بكفاية الرجحان الطارىء عليهما من قبل النذر في عباديتهما ، بعد تعلق النذر بإتيإنّهما عبادياً ومتقرباً بهما منه تعالى ، فإنّه وأنّ لم يتمكن من إتيإنّهما كذلك قبله ، إلّا إنّه يتمكن منه بعده ، ولا يعتبر في حصة النذر إلّا التمكن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمل جيداً.
بقي شيء ، وهو إنّه هل يجوز التمسك بأصالة عدم التخصيص؟ في إحراز عدم كون ما شك في إنّه من مصاديق العام ، مع العلم بعدم كونه محكوماً
__________________
1 ـ لم نعثر على الخبر المشار إليه في المتن ، ولكن ورد إنّه كمن صلّى في السفر اربعاً وترك الثنتين.
راجع الكافي 4 / 321 الحديث 2 ، 6 من باب من احرم دون الوقت.
بحكمه ، مصداقاً له؟ مثل ما إذا علم أن زيداً يحرم إكرامه ، وشك في إنّه عالم ، فيحكم عليه بأصالة عدم تخصيص ( أَكرم العلماء ) إنّه ليس بعالم ، بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الأًحكام.
فيه إشكال ، لاحتمال اختصاص حجيتها بما إذا شك في كون فرد العام محكوماً بحكمه ، كما هو قضية عمومه ، والمثبت من الأصول اللفظية وأنّ كان حجة ، إلّا إنّه لابد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ، ولا دليل هاهنا إلّا السيرة وبناء العقلاء ، ولم يعلم استقرار بنائهم على ذلك ، فلا تغفل.
فصل
هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فيه خلاف ، وربما نفي (1) الخلاف عن عدم جوازه ، بل ادعي الاجماع (2) عليه ، والذي ينبغي أن يكون محلّ الكلام في المقام ، إنّه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقاً؟ أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن (3) اعتبارها بالخصوص في الجملة ، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً ، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والياس.
فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص ، فيما إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لأجل إنّه لولا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك ،
__________________
1 ـ الغزالي في المستصفى 2 / 157.
2 ـ مطارح الأنظار / 197 ، قال : « بل ادعى عليه الاجماع كما عن النهاية » ولم نعثر عليه في مظإنّه من النهاية ، راجع نهاية الأصول / 139. ونقل الاجماع عن الغزالي والامدي ، راجع فواتح الرحموت 1 / 267.
3 ـ في « ب » : من.
كيف؟ وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه ، فضلاً عن نفي الخلاف عنه ، وهو كافٍ في عدم الجواز ، كما لا يخفى.
وأما إذا لم يكن العام كذلك ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية له ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدل بها من العلم الإِجمالي به (1) أو حصول الظن بما هو التكليف (2) ، أو غير ذلك رعايتها ، فيختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى.
ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال إنّه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً ، ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى.
إيقاظ : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا ، وبينه في الأصول العملية ، حيث إنه هاهنا عما يزاحم الحجة (3) ، بخلافه هناك ، فإنّه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، والنقل وأنّ دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً ، إلّا أن الاجماع بقسميه على تقييده به ، فافهم.
فصل
هل الخطابات الشفاهية مثل : ( يا أيها المؤمنون ) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين؟
__________________
1 ـ استدل بهذا الوجه الشيخ ( قده ) مطارح الأنظار / 202 ، رابعها.
2 ـ راجع زبدة الأصول / 97.
3 ـ في « ب » : الحجية.
فيه خلاف ، ولابد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلاً للنقض والأبرام بين الأعلام.
فاعلم إنّه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصحّ تعلقه بالمعدومين ، كما صحّ تعلقه بالموجودين ، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها ، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب ، للغائبين بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما ، بقرينة تلك الاداة.
ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الأولين يكون عقلّياً ، وعلى الوجه الأخير لغوياً.
إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلاً ، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً ، ضرورة إنّه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلّا من الموجود ضرورة ، نعم هو بمعنى إنشاءً الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فيه أصلاً ، فإن الانشاء خفيف المؤونة ، فالحكيم تبارك وتعالى نيشىء على وفق الحكمة والمصلحة ، طلب شيء قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعلّياً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاءً آخر ، فتدبر.
ونظيره من غير الطلب إنشاءً التمليك في الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلاً ، إلّا استعدادها لأن تصير ملكا له بعد وجوده ، هذا إذا اُنشىء الطلب مطلقاً.
وأما إذا اُنشىء مقيداً بوجود المكلف ووجد إنّه الشرائط ، فإمكإنّه بمكان
من الإِمكان.
وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة ، وعدم إمكانه ، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلّا إذا كان موجوداً ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه.
ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو كان موضوعاً للخطاب الحقيقي ، لأوجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره ، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعاً لذلك ، بل للخطاب الإِيقاعي الإنشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسّراً وتأسفاً وحزناً مثل :
يا كوكباً ما كان أقصر عمره (1)
.................
أو شوقاً ، ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطباً لمن يناديه حقيقة ، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصحّ مخاطبته ، نعم لا يبعد دعوى الظهور ، انصرافاً في الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، على ما حققناه في بعضٍ المباحث السابقة (2) ، من كونها موضوعة للإِيقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في
__________________
1 ـ وعجزه .... وكذاك عمر كواكب الاسحار.
وهو من رائية ابو الحسن التهامي في رثاء ولده الذي مات صغيرا ، وهي في غاية الحسن والجزالة وفخامة المعنى وجودة السرد وصدرها :
حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار
سجن بالقاهرة سنة 416 ثم قتل سرا. رأه بعضٍ اصحابه بعد موته في المنام وساله عن حاله قال : غفر لي ربي ، فقال : باي الأعمال. قال : بقولي في مرثية ولدي الصغير :
جاورت اعدائي وجاور ربه
شتان بين جواره وجواري
( شهداء الفضيلة : 24 )
2 ـ في مبحث الأوامر / 64.
الواقعي منها انصرافاً ، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده غالباً في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل : ( يا أيها الناس اتقوا ) و ( يا أيها المؤمنون ) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتياب.
ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالأدوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية.
وتوهمّ كونه ارتكازياً ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصوله بذلك لو كان مرتكزاً ، وإلاّ فمن أين يعلم بثبوته كذلك؟ كما هو واضح.
وإن أبيت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأداة الخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام بدون الاداة كغيرها بالمشافهين ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم.
وتوهمّ صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلاً عن الغائبين ، لإِحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال ، فاسد ، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى ، كما أن خطابه اللفظي لكونه تدريجياً ومتصرم الوجود ، كان قاصراً عن أن يكون موجهاً نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة ، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا ( أيها الناس اتقوا ) في الكتاب حقيقة إلى غير النبي 9 بلسإنّه.
وأما إذا قيل بإنّه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحياً أو الهاماً ، فلا محيص إلّا عن كون الاداة في مثله للخطاب الإِيقاعي ولو مجازاً ، وعليه لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعم المعدومين ، فضلاً عن الغائبين.
فصل
ربما قيل : إنّه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان :
الأولى (1) : حجية ظهور خطابات (2) الكتاب لهم كالمشافهين.
وفيه : إنّه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإِفهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلّم ، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك ، وأنّ لم يعمهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الإخبار.
الثانية (3) : صحة التمسك بإطلاقاًت الخطابات القرآنيّة بناءً على التعميم ، لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين ، وأنّ لم يكن متحداً مع المشافهين في الصنف ، وعدم صحته على عدمه ، لعدم كونها حينئذ متكفلة لأَحكام غير المشافهين ، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف ، حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام ، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلّا الاجماع ، ولا إجماع عليه إلّا فيما اتحد الصنف ، كما لا يخفى.
ولا يذهب عليك ، إنّه يمكن إثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقداً له مما كان المشافهون واجدين له ، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الإِطلاق ، مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان ، وأنّ صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلّا الاتحاد فيما اعتبر قيداً في الأحكام ، لا الاتحاد فيما كثر
__________________
1 ـ ذكرها المحقق القمي (ره) في القوانين 1 / 233 ، في الخطابات المشافهة.
2 ـ في « ب » : الخطابات.
3 ـ راجع كلام المحقق الوحيد البهبهاني ( قده ) في كتاب ملاحظات الفريد على فوائد الوحيد / 55.
الاختلاف بحسبه ، والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والايام ، وإلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين ـ فضلاً عن المعدومين ـ حكم من الأًحكام.
ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين ، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان ، لو [ لم ] (1) يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضاً ، فلولا الإِطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم ، لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم ، فتأمل جيداً.
فتلخص : إنّه لا يكاد تظهر الثمرة إلّا على القول باختصاص حجية الظواهر لمن قصد إفهامه ، مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالإِفهام ، وقد حقق عدم الاختصاص به في غير المقام ، وأُشير (2) إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.
فصل
هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعضٍ أفراده ، يوجب تخصيصه به أو لا؟ فيه خلاف بين الأعلام.
وليكن محلّ الخلاف ما إذا وقعا في كلامين ، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ، كما في قوله تبارك وتعالى : ( والمطلقات يتربصن ) إلى قوله ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (3) وأما ما إذا كان مثل : والمطلقات ازواجهن احق بردهن ، فلا شبهة في تخصيصه به.
__________________
1 ـ اثبتناه من « ب ».
2 ـ في رده للثمرة الأولى / 231.
3 ـ البقرة : 228.
والتحقيق أن يقال : إنّه حيث دار الأمر بين التصرف في العام ، بإرادة خصوص ما أُريد من الضمير الراجع إليه ، أو التصرف في ناحية الضمير : امّا بإرجاعه إلى بعضٍ ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسع في الإِسناد ، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكلّ توسعاً وتجوزاً ؛ كانت أصالة الظهور في طرف العام سالمة عنها في جانب الضمير ، وذلك لأن المتيقن من بناءً العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد ، لا في تعيين كيفية الاستعمال ، وأنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإِسناد مع القطع بما يراد ، كما هو الحال في ناحية الضمير.
وبالجملة : أصالة الظهور إنّما يكون حجة فيما إذا شك فيما أُريد ، لا فيما إذا شك في إنّه كيف أُريد ، فافهم ، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم ، بأن لا يعد ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفاً ، وإلاّ فيحكم عليه بالإِجمال ، ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول ، إلّا أن يقال باعتبار اصالة الحقيقة تعبداً ، حتى فيما إذا احتفّ بالكلام ما لا يكون ظاهراً معه في معناه الحقيقي كما عن بعضٍ الفحول.
فصل
قد اختلفوا في جواز التخصيص بالمفهوم المخالف ، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق ، على قولين ، وقد استدل لكلّ منهما بما لا يخلو عن قصور.
وتحقيق المقام : إنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح أن يكون كلّ منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كلّ منهما إن كانت
بالإِطلاق بمعونة مقدمات الحكمة ، أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم ، ولا مفهوم ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك ، فلا بدّ من العمل ب الأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلاّ كان مانعاً عن انعقاد الظهور ، أو استقراره في الآخر.
ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ، ذاك الارتباط والاتصال ، وإنّه لا بدّ أن يعامل مع كلّ منهما معاملة المجمل ، لو لم يكن في البين أظهر ، وإلاّ فهو المعول ، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.
فصل
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل الظاهر هو رجوعه إلى الكلّ (1) أو خصوص الأخيرة (2) ، أو لا ظهور له في واحد منهما (3) ، بل لابد في التعيين من قرينة؟ أقوال.
والظاهر إنّه لا خلاف ولا إشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أيّ حال ، ضرورة أن رجوعه إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة ، وكذا في صحة رجوعه إلى الكلّ ، وأنّ كان المتراءى من كلام صاحب المعالم (4) ; حيث مهّد مقدّمة لصحة رجوعه إليه ، إنّه محلّ الإِشكال والتأمل.
__________________
1 ـ نسبه السيد المرتضى (ره) إلى مذهب الشافعي وأصحابه ، الذريعة إلى أصول الشريعة : 1 / 249 ، راجع المعتمد في أصول الفقه : 1 / 245 ، وشرح المختصر للعضدي : 1 / 260.
2 ـ في المصدرين المتقدّمين إنّه مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
3 ـ الذريعة إلى اصول الشريعة 1 / 249.
4 ـ معالم الدين / 127 ، حيث قال : ولنقدم على توجيه المختار مقدّمة ... الخ.
وذلك ضرورة أن تعدَّد المستثنى منه ، كتعدد المستثنى ، لا يوجب تفاوتاً أصلاً في ناحية الاداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاماً أو خاصاً ، وكان المستعمل فيه الاداة فيما كان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فيه فيما كان واحداً ، كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا يوجب تعدَّد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوماً.
وبذلك يظهر إنّه لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع ، أو خصوص الأخيرة ، وأنّ كان الرجوع إليها متيقنا على كلّ تقدير ، نعم غير الأخيرة أيضاً من الجمل لا يكون ظاهراً في العموم لاكتنافه بما لا يكون معه ظاهراً فيه ، فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول.
اللهم إلّا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبداً ، لا من باب الظهور ، فيكون المرجع (1) عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا ، لا ما إذا كان بالإِطلاق ومقدمات الحكمة ، فإنّه لا يكاد يتم تلك المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع ، فتأمل (2).
فصل
الحق جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص كما جاز بالكتاب ، أو بالخبر المتواتر ، أو المحفوف بالقرينة القطعية من خبر الواحد ، بلا ارتياب ، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة : ، واحتمال أن يكون ذلك
__________________
1 ـ في « ب » : مرجع.
2 ـ إشارة إلى إنّه يكفي في منع جريان المقدّمات ، صلوح الاستثناء لذلك ، لاحتمال اعتماد المطلق حينئذ في التقييد عليه ، لاعتقاد إنّه كافٍ فيه ، اللهم إلّا أن يقال : إن مجرد صلوحه لذلك بدون قرينة عليه ، غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهراً في الرجوع إلى الجميع ، فأصالة الإِطلاق مع عدم القرينة محكمة ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فافهم منه ( 1 ).
بواسطة القرينة واضح البطلان.
مع إنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحكمه ، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب ، لو سلّم وجود ما لم يكن كذلك.
وكون العام الكتابيّ قطعياً صدوراً ، وخبر الواحد ظنيا سنداً (1) ، لا يمنع عن التصرف في دلالته الغير القطعية قطعاً ، وإلاّ لما جاز تخصيص المتواتر به أيضاً ، مع إنّه جائ جزماً.
والسّر : أن الدوران في الحقيقة بين أصالة العموم ودليل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينية (2) على التصرف فيها ، بخلافها ، فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره ، ولا ينحصر (3) الدليل على الخبر بالإِجماع ، كي يقال بإنّه فيما لا يوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنيّة (4) يسقط وجوب العمل به. كيف؟ وقد عرفت أن سيرتهم مستمرة على العمل به في قبال العمومات الكتابية.
والإخبار الدالة على أن الإخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها (5) أو ضربها على الجدار ، أو إنّها زخرف (6) ، أو إنّها مما لم يقل به الامام 7 (7) ، وأنّ كانت كثيرة جداً ، وصريحة الدلالة على طرح المخالف ، إلّا
__________________
1 ـ انظر معالم الدين / 147 ، في جواز تخصيص الكتاب بالخبر ..
2 ـ في « ب » : للقرينة.
3 ـ ردّ على ما أجاب به المحقق عن استدلال المجّوزين لتخصيص الكتاب بالخبر الواحد ، معارج الأصول / 96.
4 ـ في « ب » دلالة القرائنة.
5 ـ أصول الكافي : 1 / 69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب. وسائل الشيعة 18 / 78 الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
6 ـ اصول الكافي : 1 / 69 الحديث 3 ، 4 ، وسائل الشيعة 18 / 78 الحديث 12 و 14.
7 ـ اصول الكافي 1 / 69 الحديث 5 ، وسائل الشيعة 18 / 79 الحديث 15.
إنّه لا محيص عن أن يكون المراد من المخالفة في هذه الإخبار غير مخالفة العموم ، إن لم نقل بإنّها ليست من المخالفة عرفاً ، كيف؟ وصدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذه المخالفة منهم : كثيرة جداً ، مع قوة احتمال أن يكون المراد إنّهم لا يقولون بغير ما هو قول الله تبارك وتعالى واقعاً ـ وأنّ كان هو على خلافه ظاهراً ـ شرحاً لمرامه تعالى وبياناً لمراده من كلامه ، فافهم.
والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة ، وأنّ كان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالإِجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه ، ولذا قل الخلاف في تعيين موارده ، بخلاف التخصيص.
فصل
لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين ، يختلف حالهما ناسخاً ومخصصاً ومنسوخاً ، فيكون الخاص : مخصصاً تارةً ، وناسخاً مرة ، ومنسوخاً أُخرى.
وذلك لأن الخاص إن كان مقارناً مع العام ، أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصاً وبياناً له.
وإن كان بعد حضوره كان ناسخاً لا مخصصاً ، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي ، وإلاّ لكان الخاص أيضاً مخصصاً له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات.
وإن كان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصاً للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخاً له ، وأنّ كان الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً ، كثرة التخصيص ، حتى اشتهر ( ما من عام إلّا وقد خص ) مع قلة النسخ في الأحكام جداً ، وبذلك يصير ظهور الخاص في
الدوام ـ ولو كان بالإِطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى ، هذا فيما علم تاريخهما.
وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملية.
وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا ، وأنّ كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضاً ، وإنّه واجد لشرطه إلحاقاً له بالغالب ، إلّا إنّه لا دليل على اعتباره ، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة الخاص لذلك في الدوام اظهر من العام ، كما أشير إليه ، فتدبرّ جيداً.
ثم إن تعيّن الخاص للتخصيص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنّما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلاّ فلا يتعين له ، بل يدور بين كونه مخصصاً (1) وناسخاً في الأول ، ومخصصاً ومنسوخاً في الثّاني ، إلّا أن الأظهر كونه مخصصاً ، وأنّ كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص في الدوام (2) ، لما أشير إليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جداً في الأًحكام.
ولا بأس بصرف (3) الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ ، فاعلم أن
__________________
1 ـ لا يخفى أن كونه مخصصاً بمعنى كونه مبيناًبمقدار المرام عن العام ، وناسخاً بمعنى كون حكم العام غير ثابت في نفس الأمر في مورد الخاص ، مع كونه مراداً ومقصوداً بالإِفهام في مورده بالعام كسائر الأفراد ، وإلاّ فلا تفاوت بينهما عملاً أصلاً ، كما هو واضح لا يكاد يخفى ( منه 1 ).
2 ـ في « ب » : ولو فيما كان ظهور العام في عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص في الخصوص.
3 ـ في « ب » : لصرف.
النسخ وأنّ كان رفع الحكم الثابت إثباتاً ، إلا إنه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتاً ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع إنّه بحسب الواقع ليس له قرار ، أو ليس له دوام واستمرار ، وذلك لأن النبي 9 الصادع للشرع ، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وإنّه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل.
وحيث عرفت أن النسخ بحسب الحقيقة يكون دفعا ، وأنّ كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقاً ولو كان قبل حضور وقت العلم ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى ، بالمعنى المستلزم لتغير إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة ، ولا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحكم المنسوخ ، فإن الفعل إن كان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهي عنه ، وإلاّ امتنع الأمر به ، وذلك لأن الفعل أو دوامه لم يكن متعلقاً لإِرادته ، فلا يستلزم نسخ أمره بالنهي تغيير إرادته ، ولم يكن الأمر بالفعل من جهة كونه مشتملاً على مصلحة ، وإنما كان إنشاءً الأمر به أو إظهار دوامه عن حكمة ومصلحة.
وأما البداء في التكوينيات (2) بغى ذاك المعنى ، فهو مما دلّ عليه الروايات المتواترات (3) ، كما لا يخفى. ومجمله أن الله تبارك وتعالى إذا تعلقت مشيته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبيه أو وليه أن يخبر به ، مع علمه بإنّه يمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشير إليه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى في علمه ، وإنما يخبر به لأنه حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية ، واتصاله بعالم لوح المحو والإِثبات اطلع على
__________________
1 ـ في بعضٍ النسخ المطبوعة : وإلاّ لزم.
2 ـ في « ب » : التكوينات.
3 ـ الوافي : 1 / 112 ، باب البداء.
ثبوته ، ولم يطلع على كونه معلقاً على [ أمر ] (1) غير واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارك وتعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (2) الآية ، نعم من شملته العناية الإلهية ، واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي [ هو ] من أعظم العوالم الربوبية ، وهو أُم الكتاب ، يكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء ، ولبعض الاوصياء ، كان عارفا بالكائنات (3) كما كانت وتكون.
نعم مع ذلك ، ربما يوحى إليه حكم من الأحكام ، تارةً بما يكون ظاهراً في الاستمرار والدوام ، معه إنّه في الواقع له غاية وأمد يعينها (4) بخطاب آخر ، وأخرى بما يكون ظاهراً في الجد ، مع إنّه لا يكون واقعاً بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، كما إنّه يؤمر وحياً أو الهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غيره مما لا يقع ، لأجل حكمة في هذا الإخبار أو ذاك الإِظهار ، فبدا له تعالى بمعنى إنّه يظهر ما أمر نبيه أو وليه بعدم إظهاره أولاً ، ويبدي ما خفي ثانياً.
وإنما نسب إليه تعالى البداء ، مع إنّه في الحقيقة الابداء ، لكمال شباهة إبدائه تعالى كذلك بالبداء في غيره ، وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهمّ في باب النسخ ، ولا داعي بذكر تمام ما ذكروه في ذاك الباب كما لا يخفى على أولي الالباب.
ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ ، ضرورة إنّه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن حكم العام رأساً ، وعلى النسخ ، على ارتفاع حكمه عنه من حينه ، فيما دار الأمر بينهما في المخصص ، وأما إذا دار بينهما في الخاص والعام ، فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلاً ، وعلى النسخ كان محكوماً به من حين صدور دليله ، كما لا يخفى.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الرعد : 39.
3 ـ في « ب » : على الكائنات.
4 ـ في « ب » : يتعينها.
المقصد الخامس : في المطلق والمقيد والمجمل والمبين
فصل
عرف (1) المطلق بإنّه : ما دلّ على شائع في جنسه ، وقد أشكل عليه بعضٍ الأعلام (2) ، بعدم الاطراد أو الانعكاس ، وأطال الكلام في النقض والأبرام ، وقد نبهنا في غير مقام على أن مثله شرح الاسم ، وهو مما يجوز أن لا يكون بمطرد ولا بمنعكس ، فالأولى الاعراض عن ذلك ، ببيان ما وضع له بعضٍ الألفاظ التي يطلق عليها المطلق ، أو من غيرها مما يناسب المقام.
فمنها : اسم الجنس ، كإنسان ورجل وفرس وحيوان وسواد وبياض إلى غير ذلك من أسماء الكليات من الجواهر والاعراض بل العرضيات ، ولا ريب إنّها موضوعة لمفاهيمها بما هي هي مبهمة مهملة ، بلا شرط أصلاً ملحوظٍ معها ، حتى لحاظ إنّها كذلك.
وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى ، وصرف المفهوم الغير الملحوظ معه شيء أصلاً الذي هو المعنى بشرط شيء ، ولو كان ذاك الشيء هو الإرسال والعموم البدلي ، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شيء معه الذي هو
__________________
1 ـ هذا التعريف لأكثر الأصوليين على ما ذكره المحقق القمي ، القوانين 1 / 321 ، المطلق والمقيد.
2 ـ المستشكل هو صاحب الفصول ، قال في الفصول / 218 ، في فصل ( المطلق ) : ويخرج بقولنا شيوعاً حكمياً ... إلى أن قال : وقد أهملوا هذا القيد فيرد ذلك على طردهم ... الخ.
الماهية اللابشرط القسمي ، وذلك لوضوح صدقها بما لها من المعنى ، بلا عناية التجريد عما هو قضية الاشتراط والتقييد فيها ، كما لا يخفى ، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد ، وإن كان يعم كلّ واحد منها بدلاً أو استيعاباً ، وكذا المفهوم اللابشرط (1) القسمي ، فإنّه كلّي عقلي لا موطن له إلّا الذهن لا يكاد يمكن صدقه وانطباقه عليها ، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجاً ، فكيف يمكن أن يتحد معها ما لا وجود له إلّا ذهناً؟
ومنها : علم الجنس (2) كأُسامة ، والمشهور بين أهل العربية إنّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعينة بالتعين (3) الذهني ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف.
لكن التحقيق إنّه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شيء معه أصلاً كاسم الجنس ، والتعريف فيه لفظي ، كما هو الحال في التأنيث اللفظي ، وإلاّ لما صحّ حمله على الأفراد بلا تصرف وتأويل ، لإنّه على المشهور كلي عقلي ، وقد عرفت إنّه لا يكاد صدقه عليها مع صحة حمله عليها بدون ذلك ، كما لا يخفى ، ضرورة أن التصرف في المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قيده تعسف ، لا يكاد يكون بناءً القضايا المتعارفة عليه ، مع أن وضعه لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته عند الاستعمال ، لا يكاد يصدر عن جاهل ، فضلاً عن الواضع الحكيم.
ومنها : المفرد المعرف باللام ، والمشهور إنّه على أقسام : المعرف بلام الجنس ، أو الاستغراق ، أو العهد بأقسامه ، على نحو الاشتراك بينها لفظاً أو معنى ، والظاهر أن الخصوصية في كلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص
__________________
1 ـ في ( أ ) : لا بالشرط.
2 ـ في « ب » : للجنس.
3 ـ في « ب » : بالتعيين.
اللام ، أو من قبل قرائن المقام ، من باب تعدَّد الدالّ والمدلول ، لا باستعمال المدخول ليلزم فيه المجاز أو الاشتراك ، فكان المدخول على كلّ حال مستعملاً فيما يستعمل فيه الغير المدخول.
والمعروف أن اللام تكون موضوعة للتعريف ، ومفيدة للتعيين في غير العهد الذهني ، وأنت خبير بإنّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلّا الإِشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا ، ولازمه أن لا يصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلّا الذهن إلّا بالتجريد ، ومعه لا فائدة في التقييد ، مع أن التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خال عن التعسف. هذا.
مضافا إلى أن الوضع لما لا حاجة إليه ، بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه ، كان لغوا ، كما أشرنا إليه. فالظاهر أن اللام مطلقاً يكون للتزيين ، كما في الحسن والحسين ، واستفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعينها على كلّ حال ، ولو قيل بإفادة اللام للاشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإِشارة ، لو لم تكن مخلة ، وقد عرفت إخلالها ، فتأمل جيداً.
وأما دلالة الجمع (1) المعرف باللام على العموم مع عدم دلالة المدخول عليه ، فلا دلالة فيها على إنّها تكون لأجل دلالة اللام على التعين (2) ، حيث لا تعيّن إلّا للمرتبة المستغرقة لجميع الأفراد ، وذلك لتعين المرتبة الأخرى ، وهي أقل مراتب الجمع ، كما لا يخفى.
فلا بدّ أن يكون دلالته عليه مستندة إلى وضعه كذلك لذلك ، لا إلى دلالة
__________________
1 ـ ردّ على صاحب الفصول ، الفصول / 169. التنبيه الأول.
2 ـ في « ب » : التعيين.
اللام على الإِشارة إلى المعين ، ليكون به التعريف ، وأنّ أبيت إلّا عن استناد الدلالة عليه إليه ، فلا محيص عن دلالته على الاستغراق بلا توسيط الدلالة على التعيين ، فلا يكون بسببه تعريف إلّا لفظاً ، فتأمل جيداً.
ومنها : النكرة مثل ( رجل ) في ( وجاء رجل من أقصى المدينة ) أو في ( جئني برجل ) ولا إشكال أن المفهوم منها في الأوّل ، ولو بنحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، هو الفرد المعينّ في الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من أفراد الرجل.
كما إنّه في الثّاني ، هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة ، فيكون حصة من الرجل ، ويكون كلياً ينطبق على كثيرين ، لا فرداً مرددا بين الأفراد (1).
وبالجملة : النكرة ـ أيّ [ ما ] بالحمل الشائع يكون نكرة عندهم ـ امّا هو فرد معيّن في الواقع غير معيّن للمخاطب ، أو حصة كلية ، لا الفرد المردّد بين الأفراد ، وذلك لبداهة كون لفظ ( رجل ) في ( جئني برجل ) نكرة ، مع إنّه يصدق على كلّ من جيء به من الأفراد ولا يكاد يكون واحد منها هذا أو غيره ، كما هو قضية الفرد المردّد ، لو كان هو المراد منها ، ضرورة أن كلّ واحد هو هو ، لا هو أو غيره ، فلابد أن تكون النكرة الواقعة في متعلق الأمر ، هو الطبيعي المقيد بمثل مفهوم الوحدة ، فيكون كلياً قابلاً للانطباق ، فتأمل جيداً.
إذا عرفت ذلك ، فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقيقة على اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثّاني ، كما يصحّ لغة. وغير بعيد أن يكون جريهم في هذا الإِطلاق على وفق اللغة ، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح على خلافها ، كما لا يخفى.
نعم لو صحّ ما نسب إلى المشهور ، من كون المطلق عندهم موضوعاً لما
__________________
1 ـ قال به صاحب الفصول ، الفصول / 163 ، في صيغة العموم ، عند قوله : ومدلولها فرد من الجنس لا بعينه ... الخ.
قيد بالارسال والشمول البدلي ، لما كان ما أُريد منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق ، إلّا أن الكلام في صدق النسبة ، ولا يخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء القيد غير قابل ، فإن ماله من الخصوصية ينافيه ويعانده ، بل (1) وهذا بخلافه بالمعنيين ، فإن كلاّ منهما له قابل ، لعدم انثلامهما بسببه أصلاً ، كما لا يخفى.
وعليه لا يستلزم التقييد تجوزاً في المطلق ، لإمكان إرادة معنى لفظه منه ، وإرادة قيده من قرينة حال أو مقال ، وإنما استلزمه لو كان بذاك المعنى ، نعم لو أُريد من لفظه المعنى المقيد ، كان مجازاً مطلقاً ، كان التقييد بمتصل أو منفصل.
فصل
قد ظهر (2) لك إنّه لا دلالة لمثل ( رجل ) إلّا على الماهية المبهمة وضعاً ، وأنّ الشياع والسريان كسائر الطوارىء يكون خارجاً عما وضع له ، فلا بدّ في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة ، وهي تتوقف على مقدمات :
أحدها : كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، لا الإِهمال أو الإِجمال.
ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين.
ثالثتها : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ولو كان المتيقن بملاحظة الخارج عن ذاك المقام في البين ، فإنّه غير مؤثر في رفع الإِخلال بالغرض ، لو كان بصدد البيان ، كما هو الفرض ، فإنّه فيما تحققت لو لم يرد الشياع لأخلّ بغرضه ، حيث إنّه لم ينبه مع إنّه بصدده ، وبدونها لا يكاد يكون هناك إخلال به ، حيث لم يكن مع انتفاء الأُولى ، إلّا في مقام الإِهمال أو الإِجمال ، ومع انتفاء الثانية ، كان البيان بالقرينة ، ومع انتفاء الثالثة ،
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ تقدم في المقصد الخامس ، الفصل الأوّل / 243.
لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده ، فإن الفرض إنّه بصدد بيان تمامه ، وقد بينه ، لا بصدد بيان إنّه تمامه ، كي أخلّ ببيإنّه ، فافهم (1).
ثم لا يخفى عليك أن المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده ، مجرد بيان ذلك وإظهاره وإفهامه ، ولو لم يكن عن جد ، بل قاعدة وقانوناً ، لتكون حجة فيما لم تكن حجة أقوى على خلافه ، لا البيان في قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلا يكون الظفر بالمقيد ـ ولو كان مخالفا ـ كاشفاً عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، ولذا لا ينثلم به إطلاقه وصحة التمسك به أصلاً ، فتأمل جيداً.
وقد انقدح بما ذكرنا (2) أن النكرة في دلالتها على الشياع والسريان ـ أيضاً ـ تحتاج فيما لا يكون هناك دلالة حال أو مقال إلى (3) من مقدمات الحكمة ، فلا تغفل.
بقى شيء : وهو إنّه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شك في كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد ، هو كونه بصدد بيإنّه ، وذلك لما جرت عليه سيرة أهل المحاورات من التمسك بالإطلاقات فيما إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة ، ولذا ترى أن المشهور لا يزالون يتمسكون بها ، مع عدم إحراز كون مطلقها بصدد البيان ، وبُعد كونه لأجل ذهابهم إلى إنّها موضوعة للشياع والسريان ، وأنّ كان ربما نسب ذلك إليهم ، ولعل وجه النسبة ملاحظة إنّه لا وجه للتمسك بها بدون الاحراز والغفلة عن وجهه ، فتأمل جيداً.
__________________
1 ـ إشارة إلى إنّه لو كان بصدد بيان إنّه تمامه ما أخلّ ببيإنّه ، بعد عدم نصب قرينة على إرادة تمام الأفراد ، فإنّه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد ، وإلاّ كان عليه نصب القرينة على إرادة تمامها ، وإلاّ قد أخلّ بغرضه ، نعم لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلّا بصدد بيان أن المتيقن مراد ، لا بصدد بيان أن غيره مراد أو ليس بمراد ، قبالاً للاجمال والاهمال المطلقين ، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقة ( منه أعلى الله مقامه ).
2 ـ في صفحة 247 من هذا الكتاب.
3 ـ في « أ » و « ب » : من.
ثم إنّه قد انقدح بما عرفت ـ من توقف حمل المطلق على الإِطلاق ، فيما لم يكن هناك قرينة حالية أو مقالية على قرينة الحكمة المتوقفة على المقدّمات المذكورة ـ إنّه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعضٍ الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فيه ، أو كونه متيقنا منه ، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه ، حسب اختلاف مراتب الانصراف ، كما إنّه منها ما لا يوجب ذا ولا ذاك ، بل يكون بدوياً زائلاً بالتأمل ، كما إنّه منها ما يوجب الاشتراك أو النقل.
لا يقال : كيف يكون ذلك ، وقد تقدم أن التقييد لا يوجب التجوز في المطلق أصلاً؟
فإنّه يقال : مضافاً إلى إنّه إنّما قيل لعدم استلزامه له ، لا عدم إمكانه ، فإن استعمال المطلق في المقيد بمكان من الإِمكان ، إن كثرة إرادة المقيد لدى إطلاق المطلق ولو بدالّ آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزية أنس ، كما في المجاز المشهور ، أو تعيناً (1) واختصاصاً به ، كما في المنقول بالغلبة ، فافهم.
تنبيه : وهو إنّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة ، كان وارداً في مقام البيان من جهة منها ، وفي مقام الإِهمال أو الإِجمال من أُخرى ، فلابدّ في حمله على الإِطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ، ولا يكفي كونه بصدده من جهة أُخرى ، إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلاً أو شرعاً أو عادةً ، كما لا يخفى.
فصل
إذا ورد مطلق ومقيد متنافيين ، فإمّا يكونان مختلفين في الإِثبات والنفي ، وإمّا يكونان متوافقين ، فإن كانا مختلفين مثل ( أَعتق رقبة ) و ( لا
__________________
1 ـ في « ب » : تعييناً.
تعتق رقبة كافرة ) فلا إشكال في التقييد ، وأنّ كانا متوافقين ، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد ، وقد استدل بإنّه جمع بين الدليلين وهو أولى.
وقد أُورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر ، مثل حمل الأمر في المقيد على الاستحباب.
وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفاً في معنى اللفظ ، وإنما هو تصرف في وجه من وجوه المعنى ، اقتضاه تجرده عن القيد ، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الإِجمال ، فلا إطلاق فيه حتى يستلزم تصرفاً ، فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد ، بحمل أمره على الاستحباب.